عمار علي حسن
قبل خمسة عشر عاماً قابلت فى القاهرة باحثة أمريكية تعد رسالة للدكتوراه عن ظاهرة «موائد الرحمن» الرمضانية. وقبل سنوات تعرفت على باحث فرنسى يعد أطروحة مماثلة عن «الحدائق العامة فى القاهرة». وعلى مدار مسيرتى العلمية والبحثية طالعت العديد من الدراسات التى تهتم بظواهر وأشكال اجتماعية صغيرة، وتخرج منها بنتائج غاية فى الدقة والرصانة. وتذكّرت فى كل هذا ما تعلمناه من أساتذتنا الكبار من أن النظريات الكبرى خرجت من رحم التجارب الحياتية أو الميدانية الصغيرة.
وحلّت كل هذه المعانى فى رأسى مرة واحدة وأنا أتابع ما كانت تتناقله صحف القاهرة قبل سنوات عن قيام السفير الأمريكى الأسبق فى مصر بالذهاب سنوياً إلى مولد أحد أقطاب الصوفية وهو «السيد أحمد البدوى» الذى يقام بمدينة طنطا فى قلب الدلتا. وقلت وقتها إن السفير الأمريكى يريد أمرين؛ الأول هو التقرب إلى المصريين فى إطار سياسة تحسين صورة أمريكا، والثانى هو اختبار الاستراتيجية الأمريكية التى تريد أن تعتمد التصوف طريقاً للإسلام بديلاً من التنظيمات والجماعات السياسية ذات الإسناد الإسلامى، استناداً إلى قدرة الصوفية التركية على استيعاب قيم الحداثة والعلمانية، وهو المسار الذى تخلت عنه واشنطن فيما بعد، وراحت تتعاون مع جماعة الإخوان لتحقق الهدف ذاته، سواء باستيعاب التنظيمات الإرهابية واحتوائها، أو بتأمين مصالح أمريكا فى الشرق الأوسط.
لكن برق فى خاطرى أمر مهم على ضفاف هذا التحليل السياسى السريع، وهو سؤال عما فعلنا نحن فى معاهدنا وجامعاتنا لدراسة تجربة «التصوف» من الناحيتين الاجتماعية والسياسية، بعد أن أضحت الطرق الصوفية ظاهرة اجتماعية لا يمكن إهمالها. وقلت فى نفسى: رغم اهتمام الأدباء والفلاسفة بالصوفية والمتصوفة إلا أن حقل الدراسات الاجتماعية ومنها السياسية لا يزال يحتاج إلى بذل جهد أكثر لوضع هذه الظاهرة تحت مجهر البحث.
عندها دار سؤال آخر فى ذهنى مفاده: أى المداخل والاقترابات العلمية يمكن التعامل بها مع الصوفية بعد أن فارقت صوامعها وأصبحت ظاهرة اجتماعية أقرب فى كثير من الأحيان إلى الفلكلور منها إلى الدين؟ ووجدت إجابات عديدة، إذ يمكن دراسة الطرق الصوفية كأحد روافد التيار الإسلامى على اعتبار أن المتصوفين ينادون بتطبيق الشريعة الإسلامية مثل مختلف الجماعات التى ترفع الإسلام شعاراً سياسياً لها، ويمكن دراستها على الوجه الآخر كتنظيم مضاد للحركة الإسلامية المتصارعة على السلطة من منطلق رفضها لأطروحات الراديكاليين بل ووصفها بالتطرف ونعتها بالإرهاب.
نقلاً عن "الوطن"