عمار علي حسن
لن أراه بعد اليوم، يمشى الهوينى، يده فى جيبه، ورأسه يتطامن فى تواضع، يوزع ابتساماته على كل من يمر بجانبه، ولا يبخل بما يعرفه على أحد، فقد غادر الدنيا، وغاب جسده، وترك روحه ترفرف فى ردهات كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، وتُلقى السلام على تلاميذه، الذين تتابعوا أمام عينيه عبر سنين عدداً، ولم ينسه أحد منهم.
كان فلاحاً من طين أرضنا الطيبة، عاش قابضاً على مذهب أهل الريف، وسار على أشواقهم المعتّقة إلى العدل والبهجة والصبر، إذ اتخذهم موضوعاً لأطروحته للدكتوراه «الثقافة السياسية للفلاحين المصريين»، وظل طيلة حياته مربوطاً بهم، وهو يغمض عينيه كثيراً عن أضواء المدينة المبهرة، التى طالما خطفت أبصار كثيرين ممن زاملوه وجاوروه فنسوا من أين أتوا؟ ومن ينتظرهم على مفترق الطرق، وفى كل الأوقات؟
كانت خدماته معارة إلى جامعة الكويت وقت أن دخلتُ هذه الكلية عام 1985، وعاد إليها بعد تخرجى، لكننى اقتربت منه أيام الدراسات العليا، فأشرف على أطروحتى للماجستير وشارك فى لجنة مناقشتى للدكتوراه، وتعلمت منه كثيراً، فقد كان واسع المعرفة، كريم الخلق، متواضعاً بسيطاً، لم يتجهّم فى وجهى يوماً، ولم يبخل علىّ بأى شىء أحاط به علماً، وعاملنى كصديق وليس كتلميذ، وهذا كان دأبه دوماً، مع المختلفين معه والمتفقين.
وقد جرّبت الاختلاف معه فى بعض المواقف والآراء، فلم يزجرنى، ولم يزاور بعينيه بعيداً عنى، بل كان ينصت إلىّ، وعيناه فى عينىّ، وأذنه تلتقط الحروف الصاخبة الخارجة من فمى، مقدراً حماس الشباب ونزقه أحياناً، وعلى فمه ابتسامة لا تفارقه أبداً، يسكت، ثم يطرح الأسئلة، ويترك الإجابات مفتوحة أمام الكتب وتجارب الحياة وآثار الزمن التى تحفر لنا طرقاً جديدة، دون أن يزعم أنه يمتلك ناصية الحقيقة، وهذا سمتُ العلماء الثقات.
كنت أدخل مكتبه فأجده جالساً على الأرض، وقد أسند ظهره إلى حشوة بسيطة، وفرد ساقيه قليلاً، ورأسه غاطس فى كتاب يقرأه، أو بحث لتلميذ يراجعه، أو أوراق طلاب يطالعها. كنت أخلع حذائى مثله، وأجاوره، فينحّى ما معه جانباً، ليقف على ما أريد، ولم أرد منه سوى ما فى رأسه من علم، وما بتجربته فى البحث الميدانى من معالم، وكنت أخرج من مكتبه مغتبطاً ومحتفياً بهذا العالم البسيط، مستعيداً صدى صوته وهو ينادينى باسمى فى عمق، يعكس حدبه الإنسانى، وسعادته بتلميذه الذى كان يتوقع له الكثير، فعاهده على ألا يخيّب ظنه أبداً.
قبل سنوات، وفى عزاء زوجته التى سبقته إلى الحياة الآخرة، وجدته واقفاً بقامته الممشوقة، وفمه الصموت، وعينيه المنكسرتين حزناً، وسط أهل قريته، يتلقون معه العزاء، ويجمعون برفقته بقايا الحزن الموزعة على وجوه، يأسى أصحابها لرجل ابتسمت له الدنيا فى لحظة عابرة ثم سرقت منه ما أعطته، وتركته للوحشة والحنين والألم.
هناك فى رحاب ذى الرحمة والجلال، ستذهب الوحشة، ويكف الحنين عن إرسال أشواكه المحمومة المسنونة إلى الروح، ويتساقط الألم كأوراق يابسة فى خريف عاصف أو قطرات ماء شحيح فى صهد شمس صيف مباغت. فنم يا أستاذى سعيداً بسيرتك الطيبة، وصدقاتك الجارية، وبواحد من تلاميذك لن يكف عن الدعاء لك: اللهم ارحمه، واغفر له، واصفح عن سيئاته، وأسكنه فسيح جناتك، وألهم، بفضلك، أهله الكرام كل الصبر والسلوان.
نقلاً عن "الوطن"