عمار علي حسن
12 هناك اختلاف بين العلماء فى تقييم الثورات السياسية والاجتماعية الكبرى التى وقعت فى تاريخ الإنسانية، فهناك من يراها وسيلة ضرورية لتحقيق تقدم البشر نحو مجتمع تسوده الحرية والعدالة والكفاية والمساواة والانسجام. ويوجد فلاسفة محافظون، على رأسهم فريدريك نيتشه وجوستاف لوبون، يعتقدون أن الثورات تعبر عن عواطف جامحة تدفع إلى فعل غير رشيد يؤدى إلى تحطيم النظم القائمة، وينعت هؤلاء الثورات بأنها «سلوك الغوغاء» و«فعل العقلية البُدائية» و«حصيلة الحقد النفسى الشديد» و«الانهيار العصبى للمجتمع» و«التصرف البربرى». ويشبه نورمن هامبسن الثورة بالعيوب الجيولوجية أو الكوارث الطبيعية التى تحل فجأة وتنهى الانسياب الطوعى للحياة، ويفضل عليها التطور الإيجابى للمجتمعات.
13 تنقسم الثورات من حيث قوة التأثير إلى نوعين؛ الأول هو «الثورات المحدودة»، التى لا يزيد ما تفعله عن الإطاحة بحكام من مناصبهم واستبدالهم بآخرين وربما تحسن نسبى فى الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. والثانى هو «الثورات الجائحة»، التى تهز مناطق أوسع بكثير من البلد التى وقعت فيه، وهذا ينطبق بشكل واضح على الثورات الأمريكية 1776 والفرنسية 1789 والمكسيكية 1910 والروسية 1917 والصينية 1949 والإيرانية 1979. وهناك من يخرج الأول من تصنيف الثورة، لأن غاية الثورات ليست الإطاحة بالحاكم لكن بناء نظام سياسى جديد على نحو مغاير تماماً لما كان سائداً.
14 الثورة هدم وبناء، هدم للنظام الذى ثار الناس ضده، وبناء آخر يحل محله، مستجيباً لأشواق الثائرين إلى الحرية والعدالة والكفاية. وقد يكون الهدم سريعاً وشاملاً وعميقاً، وقد يتم على مراحل، ولا سيما فى البلدان التى يبتلع فيها نظام الحكم مؤسسات الدولة، ويتخذها مطية لاستمراره بحد التغلب. ففى مثل هذه الحالة يعى الثوار أن هدم النظام جملة واحدة وفى زمن قياسى قد يؤدى إلى ترنح الدولة، ومن ثم يتعاملون مع عملية الهدم بمبضع جراح وليس بمعول فلاح. لكن الهدم يجب أن يتم فى كل الأحوال بصرف النظر عن المدة التى يستغرقها أو الطرق التى يسلكها القائمون به. فإن توقف الهدم وبقيت بعض آثار النظام القديم تقوضت معالم الثورة، وضعف تأثيرها، وانفتحت نافذة أمام قوى «الثورة المضادة» لتستجمع قدراتها وتنازِل الثوار، وقد تنتصر عليهم.
15 يعتقد كثيرون أن «صندوق الانتخاب الشفاف» بات بديلاً عن الثورة فى المجتمعات الديمقراطية، أو هو «الثورة الجديدة» فى التاريخ البشرى، التى أنهت الأنماط التقليدية المعروفة من الثورات. فالمواطنون هناك لا يحتاجون إلى الثورة على من بيده مقاليد الأمور حتى يخلعوه من منصبه، ويكفيهم الصبر عليه حتى تنتهى فترة حكمه التى تحددها الدساتير، ثم يصوتوا لرحيله، أو لإزاحة الحزب الذى يمثله عن السلطة.
وقد ظهر كتاب بهذا المعنى شارك فى تأليفه عدد من أبرز علماء السياسة والاجتماع والمؤرخين، ممن صرفوا معظم حياتهم يدرسون العمليات الثورية، وقد حاول هؤلاء الإجابة عن سؤالين مهمين؛ يتعلق الأول بالعوامل التى تتحكم فى صياغة ومدى تأثير الأشكال الجديدة الممكنة للتغيير السياسى الراديكالى فى عهد العولمة، ويدور الثانى حول ما إذا كانت ديمقراطية المشاركة قد أصبحت وسيلة للنضال الثورى فى المستقبل، وإلى أى حد أصبحت الثورات تعتمد على التكنولوجيا الحديثة ووسائل الاتصالات.
لكن هذه الأطروحة لم تلقَ موافقة من بعض مؤلفى الكتاب الذين قدموا ردوداً قوية على كل من كان يعتقد بأن عصر الثورات قد انتهى، وقالوا إن الأجدر بالمفكرين مناقشة التغيرات التى طرأت على أساليب الثورات والثقافة السياسية المرافقة لها. فما دام هناك نظم حاكمة تمارس الاستبداد والاستعباد والظلم الاجتماعى المنظم والقهر وإهدار كرامة الإنسان، فإن الثورة عليها أمر قائم وإن تأخر بعض الوقت، لكن على الثوار أن تكون لديهم استراتيجية أو يتفقوا على قيادة، ليس لحماية الثورة من السرقة فقط أو لجعلها أداة لبناء الوطن، بل لضمان عدم تحولها إلى فوضى أو معول هدم للدولة أو تفككها مثلما جرى فى سوريا وليبيا.
نقلاً عن "الوطن"