عمار علي حسن
نحن بحاجة ماسة إلى العمل بـ«روح الفريق» فى السياسة والاستراتيجية والتخطيط الهادف إلى عبور الأزمات، والأهم من كل هذا فى العلم وتجاربه واكتشافاته المذهلة. فالطابع الجماعى للعلم خاصية اكتسبها مفهوم العلم نفسه مع مطلع العصر الحديث، حيث لم يعد جهداً فردياً بحتاً، لا سيما بعد أن استقل عن الفلسفة، وتشعّب إلى حد بعيد، وأصبح مع توالى أجيال من العلماء فروعاً وحقولاً يسعى كل منها إلى الاكتمال. وكان العلماء فى البداية يتبادلون المعارف عبر الرسائل، ولكن سرعان ما اتضح أن الرسائل المتبادلة أسلوب بطىء لا يسمح بنشر المعرفة وإخضاعها لنقد العقول الأخرى وتحليلها، إذ لم تكن ظروف ذلك العصر تسمح للعلماء إلا بتبادل رسالة أو رسالتين فى السنة كلها، بينما كان عدد الأبحاث العلمية يتزايد ويتوالد بشكل لافت، ولذا بدت الحاجة ماسة إلى إنشاء جمعيات علمية، يتبادل فيها العلماء أبحاثهم ويتناقشون حولها، ثم يقسمون أى عمل علمى بينهم وفق خطة مدروسة وممنهجة.
فمن يقفون خارج المشكلة ويطالعونها بعمق، يرونها بشكل أفضل، ومن يتأملون فى القضايا والظواهر من خارج المنغمسين فى تلال من المعلومات حولها قد يكتشفون جوانب خفية على هؤلاء المنهمكين فى التفاصيل حتى ذقونهم، وبالتالى يكون بوسعهم أن يقدموا حلولاً إبداعية أو مبتكرة، ويضعون أيديهم على ما ستسير فيه هذه المشكلة مستقبلاً، بل يدركون بشكل أفضل مستقبل الحلول التى يضعونها.
ويطلق الباحثان إدى فاينر وأرنولد براون على هذا الوضع اصطلاح «عجز المعلمين» ويلخصان تجربتهما فى هذا الصدد بقولهما: «لن نعمد أبداً إلى التوجه للأطباء وحدهم لمساعدتنا فى رؤية مستقبل الرعاية الصحية، أو إلى قادة الجيش فقط لتحديد مستقبل الأمن القومى. فالناس عموماً، على الصعيدين المهنى والشخصى، يعرفون الكثير عما لديهم، إلى الدرجة التى تجعلهم آخر من يرى ذلك المستقبل بشكل مختلف».
ولهذا كانت الاكتشافات العبقرية لأبرز علماء الفيزياء، وفى مقدمتهم ألبرت آينشتاين، قد حدثت من خلال حوار مفتوح وصادق وبسيط بينهم، بعد أن قضوا سنوات يلتقون ويتحدثون ويتبادلون أفكاراً صارت فيما بعد تشكل أسس الفيزياء الحديثة. واعتاد جوناس سولك، مطور المصل الذى قضى على شلل الأطفال، أن يجمع رجالاً ونساءً من حقول ومجالات معرفية وعلمية شديدة الاختلاف ليتفاعلوا مع بعضهم أثناء جلسات جماعية، وشعر أن هذه الطريقة أسهمت فى تعزيز قدرته على إبداع أفكار جديدة. كما أدرك إليكس أورسبون، الأمريكى المتخصص فى الإعلانات، أهمية العصف الذهنى فى إنتاج أفكار جديدة، وسعى إلى خلق بيئة خالية من كل القيود، تشجع على إطلاق العنان للخيال لمجموعة من الأفراد تلتقى لتناقش فكرة أو تحل مشكلة معينة.
وفى العلوم الإنسانية، يؤمن عالم الاجتماع رايت ميلز بأن «الحلقات النقاشية» عن المشاكل، والمناهج، والنظريات، بوسعها أن تسهم فى فهم الظواهر بشكل أعمق، والتنبؤ بمستقبلها، ويدعو إلى ضرورة أن تنصب هذه الحلقات على العمل أو الفكرة التى يكون المتناقشون بصددها، ويجب أن يهتدى العمل بنتائجها. ولعل ما قدمته مدرستى «براغ» و«فرانكفورت» ما يبرهن بجلاء على أهمية العمل بروح الفريق من أجل إبداع الجديد، ومحاولة كشف غموض ما سيأتى. وقد تكون القاعدة المناسبة فى هذا الخصوص هى أن حاصل تخيل عدة أشخاص سيكون بالقطع أفضل وأكثر دقة من تخيل شخص واحد، ويمكننا أن نطلق على هذا «الخيال الجمعى»، وهو حالة أكثر إحكاماً وتحديداً من اصطلاحات مثل «المخيال الشعبى»، الذى يعبر عما تنتجه جماعة بشرية واسعة من أساطير وحكايات تمجّدها وتحافظ على تماسكها.
نقلاً عن "الوطن"