عمار علي حسن
.. وهناك جذور لفكرة «المستبد المستنير» و«المستبد العادل» أو «الطاغية الخَيّر» إذ بدأت فى أوروبا فى عصر التنوير، قائمة على تصور أن الحاكم يمكنه أن يحمل المطالب التى انطوت إليها الأفكار الفلسفية آنذاك حول الفرد والعقل والطبيعة والسعادة والتقدم. ويُتخذ من فريدريك الثانى ملك بروسيا (1740 - 1786م)، نموذجاً لمثل هذا الحاكم، حيث كان يعتبر نفسه خادماً للدولة، وقبل أن يحاسب أمام شعبه، وقام بحركة إصلاحات واسعة فى مختلف مجالات الحياة. لكن التطور الاجتماعى فى أوروبا تجاوز هذه الفكرة مع رسوخ العقد الاجتماعى بين الحاكم والمحكوم، والذى انتهى بجعل الأمة هى مصدر السلطات، وهى التى تأتى بالحاكم وتذهب به.
وما ذكره عبدالرحمن الكواكبى فى كتابه المهم «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» يبدد إمكانية تواشج الاستبداد مع العدل، حيث يصف فى عبارة دالة الاسـتبداد بأنه «يقلب الحقائق فـى الأذهان، فيَسـُوق الناس إلى اعتقاد أن طالب الحق فاجر، وتارك حـقـه مُطـيـع، والمُشتكـى المُتـظلـم مُفسد، والنبـيه المُدقق مُلحد، والخامل المسكين صالح، ويُصبح -كذلك- النُّصْح فضولاً، والغيرة عداوة، والشهـامـة عتوّا، والحميّة حماقة، والرحمة مرضاً، كـمـا يعتـبـر أن النـفاق سياسة والتحايل كيـاسة والدناءة لُطْف والنذالة دماثة!
وقد عرفت القواميس السياسية الحديثة والمعاصرة مصطلحاً أكثر إجرائية وتحديداً وعمومية للاستبداد، وهو «الديكتاتورية» التى تعنى حكم الفرد المقترن بالتعسف، وقد يكون حكماً عسكرياً ينشأ حين يتمكن الضباط وجندهم من الاستيلاء على السلطة، وقد يكون حكماً مستنداً إلى طغيان الحضور الشخصى لزعيم يحظى بجماهيرية جارفة وكاسحة، على الأقل فى بداية الجلوس على الكرسى الكبير، والتنعم بصلاحياته المفرطة.
ومصطلح الديكتاتور رومانى الأصل، ظهر فى البداية ليدل على منصب حاكم من النبلاء يرشحه أحد القنصلين بتزكية من مجلس الشيوخ، ويتمتع بسلطات استثنائية تجعل الدولة خاضعة له فى أوقات الأزمات على حساب توزيع السلطة بين قنصلين متساويين وموظفين كبار ومجلس الشيوخ والمجالس العامة.
وهناك ثلاثة أمثلة ناصعة على الديكتاتورية المعاصرة، الأول هو بينيتو موسولينى (1883- 1945) فى إيطاليا، الذى تصرف كقيصر رومانى عتيق، ولم يتقيد بتفويض ولا قانون لا سيما منذ عام 1925، وأطلق على نفسه اسم «الدوشه» أى الزعيم، وتحكم فى مقاليد الأمور بيد من حديد عبر حزبه الفاشى. أما الثانى فهو أدولف هتلر (1889 - 1945) الذى وصل إلى الحكم بواسطة الانتخابات لكنه انقلب على الديمقراطية وقبض على الزمام كله بحزبه النازى وطغيان شخصيته، وقاد بلاده إلى الهلاك فى الحرب العالمية الثانية. والثالث هو جوزيف ستالين (1878- 1953) الذى انقلب على مبادئ لينين وحكم الاتحاد السوفيتى المنهار ثلاثين عاماً بالحديد والنار، وأمر بتصفية معارضيه أو ترحيلهم قسرياً ونفيهم إلى سيبريا.
لكن هذه الأمثلة الكبرى سبقتها وتخللتها وأعقبتها ديكتاتوريات أخرى عديدة فى مشارق الأرض ومغاربها، لا سيما فى بلدان العالم الثالث، من أمثال عيدى أمين فى أوغندا، وبوكاسا فى أفريقيا الوسطى والذى اشتهر بتفضيل لحوم الأطفال، ومحمد رضا بهلوى شاه إيران، وصدام حسين فى العراق، وحافظ الأسد فى سوريا، ومعمر القذافى فى ليبيا، والحكام المتعاقبين فى كوريا الشمالية، وديكتاتوريات عديدة فى أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا قبل أن تهب عليها رياح الديمقراطية.
(ونكمل غداً إن شاء الله تعالى)
نقلاً عن "الوطن"