عمار علي حسن
صنع الله القرية، وصنع الإنسان المدينة، فما أوسع الهوة بين إبداع الخالق وإبداع المخلوق. وعلى قدر ألفة القرى وسكونها، تأتى وحشة المدن وصخبها. ووسط هذا الصخب وتلك الوحشة الضارية يضيع كثيرون، ويهيمون على وجوههم، متنقلين فى ذهاب وجيئة بين الحارات المتعرجة والميادين الوسيعة، وهم يحملون فوق جباههم لافتة تقول «غرباء» أو «طالبو عمل وسكن».
إنها العلامة التى ترقد أيضاً فى قلب ونفس كل الذين يحملون أمتعتهم فى أيديهم وآمالهم فى عيونهم، زاحفين من الريف إلى المدن، إما أنهم ساعون وراء الرزق، أو طالبو علم، أو باحثون عن متعة، أو مغامرون راغبون فى تجريب عالم جديد، أو متمردون على الجدران المصمتة والخضرة اليانعة التى ملأت عيونهم فجاءوا ليفرغوا ما فيها تحت أقدام البنايات الشاهقة الموحشة، أو يلونونها بالأحمر الزاعق، والأصفر الفاقع، وأسود الأسفلت الذى يئن من دبيب الآدميين المتعبين، من صراع على المكانة الاجتماعية والمناصب السياسية والثروة.
لكن المدينة على تنصلها من القرية لا تستطيع أن تهجرها أو تطردها تماماً من ذاكرتها، بل تستحضرها فى الأشجار المغروسة على جنبات الشوارع الوسيعة، وفى الحدائق التى تفرش بساطها الأخضر بين البنايات الشاهقة، وفى نافورات المياه التى ترسم أشكالاً مختلفة، وتنثر حباتها الشفافة على وجوه العابرين، وفى الحركات الاجتماعية المدافعة عن البيئة، والمطالبة دوماً بأن يكون اللون الأخضر فى كل مكان، وفى أيادى نساء جميلات يزرعن أصص الورد فى الشرفات، ورجال يرمون أذرع اللبلاب على صفحات الجدران الواقفة فى وجه الزمن.
وليست كل المدن سواء، فهناك العتيقة العريقة الضاربة فى جذور التاريخ، وهناك الطارئة الجديدة على الدنيا، وهناك التى تتجاور فيها بناياتٌ الفرق بين الواحدة وأختها مئات بل آلاف السنين، وهناك التى لا تجد فرقاً بين قديمها وجديدها سوى بضع سنوات أو عقود على الأكثر. وهناك المدينة التى نبتت على ضفاف قرية أو طوقتها فى دأب فزادتها ضخامة وغربة، فقال الناس «الريف قد تمدين»، وهناك أخرى كانت فى الأصل مدينة ونبت الريف حولها أو فى جوانب منها، كزوائد دودية، فقال الناس «المدينة تريفت»، فوجدنا الموظفين فى المنتصف، والفلاحين على الأطراف.
وهناك مدن عريقة أهملها أصحابها، فتركوا للمعمار الحديث، بقبحه الطافح وجهامته، فرصة ليزحف ويرمى ظلاله الكئيبة على البنايات الخفيضة الوديعة المسكونة بالتاريخ والفن، فاختلط الحابل بالنابل. وهناك مدن حافظ عليها أصحابها فتركوها على حالها، ولم يمدوا إليها من مظاهر التحديث والحداثة إلا بالقدر الذى لا يأتى على شخصيتها الحقيقية ولا يضيع معالمها الأصيلة ولا يُفقدها رمزيتها التاريخية، وحرصوا على أن يجعلوا من البيوت التى سكنها المشاهير أو التى شهدت أحداثاً لا تُنسى مزارات سياحية.
ويفرق علماء الاجتماع بين المدينة الصغيرة «البلدة» Town وبين المدينة الضخمة Megalopolis وهى تشير حالياً إلى ضواحٍ واسعة الأرجاء، تترابط وظيفياً، وكذلك المدينة الكبرى Metropolis وهى تشير إلى المراكز الحضرية الكبرى والضواحى المحيطة بها، وأيضاً المجمع الحضرى أو البقعة الحضرية Conurbation وهى تشير إلى التجمع الذى يضم مدينة كبرى، تطوقها ضواحٍ مترامية الأطراف، لتكون بيئة حضرية وصناعية، تنمو باطراد. وتتدخل الدولة لتربط بين هذه الأحياء عبر شبكة نقل عصرية، بما يوحدها فى خاتمة المطاف، لا سيما مع ميلاد الأسواق ومناطق العمل وأماكن التريض والترفيه.
(نكمل غداً إن شاء الله).
نقلاً عن "الوطن"