عمار علي حسن
هاتفنى أحد القراء وقت نشر حلقات عن كبار المتصوفة بصحف «المصرى اليوم» و«الوطن» و«الجريدة» الكويتية، وهو رجل ذو مكانة، وقال: «كم أبكيتنى، وجعلتنى أعرف أن تاريخ الإسلام فيه من هم أعظم من المتنطعين الذين يصدعون رؤوسنا بأقوال مكرورة معلبة جاهزة لا روح فيها ولا حرارة، رغم الصراخ والضجيج والعجيج»، ثم تحدث بمرارة عن انصراف بعض شبابنا عن الدين واتجاههم إلى الإلحاد. وكم أسعدنى أنا بعدها أن أجد الكتاب، الذى صدرت طبعته الثالثة قبل أيام، فى أيدى يافعين بمعرض القاهرة الدولى للكتاب، وأن يناقشنى بعضهم فيه.
وقد نُشرت هذه الشخصيات، التى شجعنى على كتابتها الصديقان الأستاذ رامى إبراهيم ود. أحمد محمود، وتابعها الناس فى وقت فارق من تاريخ مصر والعرب، إذ طالعها الناس فى مصر عقب انقضاء الموجة الأولى من ثورتنا العظيمة، وقت أن أطلت علينا رؤوس دينية جامدة خامدة، ادعت امتلاك الحقيقة، وظنت أنها هى التجسيد والتمثل الأساسى والوحيد للإسلام، وأقصرت لقب «العلماء» على حفنة من رجالها يحفظون بعض كتب قديمة، يقدسون مؤلفيها من البشر، ويعتقدون أنها العلم الصرف، الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وكم آلمنا أن يطلق لفظ «العالم» على أهل الرواية لا أهل الدراية، وعلى الحفظة لا على الفاهمين الناقدين المبدعين.
ظهرت هذه الشخصيات، وكم كانت حاجة الناس إليها، ليعرفوا أن تاريخ الإسلام غنى بشخصيات أعظم بكثير من هؤلاء الحفظة المنغلقين الذى يركزون على المنظر لا المخبر، والمظهر لا الجوهر، إنهم هؤلاء الذين حبسوا الإسلام العظيم فى مجموعة من الأمور الشكلية العابرة، ووظفوه فى قضية الصراع على السلطة والثروة، ولهذا وضعتها فى كتاب صدر مؤخراً، يضع تجار الدين فى حجمهم الطبيعى، دون أن يذكر ذلك صراحة.
جمعت هذه الشخصيات فى كتاب يعرض حالات عشق لا يدانى، كبير وعريض على اتساع الكون، عميق وراسخ كالجبال الرواسى، لا يخبو نوره، ولا ينتهى عطاؤه، ولا تنضب مواجيده وأذواقه، ولا تتراخى مقاماته وأحواله. إنه العشق الذى ذاقه كبار العابدين والزاهدين، وهبّت نسماته على كل من اقتربوا منهم وحاولوا أن يتشبهوا بهم وخلوا وراء ظهورهم منافع الدنيا الزائلة وأطلقوا أرواحهم لتبحث عن الحب العظيم الذى لا يتهادى إلا لأصحاب القلوب الرقيقة والنفوس الطيبة والعقول المتوقدة والبصائر النيّرة.
إنها سطور عشق صنعتها أقوال وأفعال من وصفهم مريدوهم بالأقطاب والأبدال والأنجاب. سكنات وحركات، همسات وصرخات. تفكير وتعبير وتدبير، شكّلت جانباً لا يمكن إهماله من الحضارة الإسلامية على امتداد تاريخها. وهى سطور أوجدتها معالم الشريعة وأنوار الحقيقة، اللتين تقاربتا وتباعدتا وتماهتا فى تصنيف عجيب، أثار جدلاً لن ينتهى، لكنه أنتج معرفة لا يمكن إنكار فضل حضورها. إنها رحلات المتصوفة المسلمين الكبار، من المنشأ والمسار إلى المآل.. رحلات صانعها ودافعها ورافعها العشق الإلهى، الذى لن يبور ما دام للبشر قلوب تنبض، ونفوس تطيب.
إنها صور قلمية أو تراجم أو ملامح ذاتية لرموز التصوف وشيوخه الكبار، الذين شكلوا كتيبة عريضة من فرسان المحبة والتسامح والزهد والولاية والمعرفة الحدسية على مدار التاريخ الإسلامى. ولم أشأ أن أرتبهم زمنياً، بل رتبتهم أبجدياً، فنصوصهم تتجاوز زمن كتابتها، وأحوالهم تتجدد مع العارفين والواصلين من أولياء الله الصالحين.
لقد حاولت، فى سرد حياة وفكر ومواقف وحالات أكثر من أربعين شخصية صوفية كبيرة، أن أتبع منهجاً واحداً، وسعيت إلى أن أدقق النظر، وأزن المعنى، حتى نحيط خبراً بكل الآراء والمواقف حول الشخصية التى نعرضها. آراء ومواقف المادحين والقادحين. فلا إجماع على أحد. ولا كرامة لنبى فى وطنه. والتاريخ اختيار. وما يُكتب عن إنسان، صغر أو كبر، فى أى زمان وأى مكان لا يخلو من هوى، ولا ينجو أحياناً من ضعف.
نقلاً عن "الوطن"