بقلم: مصطفي الفقي
لقد أصبحت «الأتاتوركية» رمزاً تاريخياً أمام ممالك الشرق الأوسط ودول المنطقة كنموذج لنهج إصلاحى يتجه نحو الحداثة ويخلع أردية الماضى حتى يخرج من عباءة ارتدتها النظم لسنوات طويلة، أقول ذلك بمناسبة ما يجرى فى بعض دول العالم العربى، خصوصاً فى منطقة الخليج، حيث تبدو الحركة الإصلاحية ناقوساً يدق بشدة بعد طول سبات، ولعل الخطوة التى اتخذتها «المملكة العربية السعودية» مؤخراً بتحرير دور المرأة إلى حد كبير والسماح لها بقيادة السيارات بعد أكثر من مائة وعشرين عاماً من قيادتها فى مصر، كذلك كان توجهها لتنقية دور رجال الدعوة مما لحق بهم من أخطاء وشوائب، فضلاً عن توجيه ضربات موجعة للفساد المالى فى المملكة، أقول إن ذلك كله قد ذكرنى بشىء مما فعله «مصطفى كمال أتاتورك» عندما قلب وجه تركيا العثمانية ليصنع منها تركيا الحديثة، وأنا أظن أن الحركات الإصلاحية الكبرى قد ارتبطت دائماً بصدمات فاجأت الناس وغيرت الأوضاع، وقد يرفضونها فى وقتها ولكنهم يعودون إليها بعد حين، فالإنسان عدو ما يجهل، والشعوب لا تقبل التغيير بسهولة إلا إذا انبثق عنها أو خرج منها، ولعلى أشير هنا إلى الملاحظات الآتية:
أولاً: إن «الأتاتوركية» قد غيرت وجه الحياة فوق «هضبة الأناضول» وحولها وأنهت دولة الخلافة الإسلامية التى امتدت لما يقرب من سبعة قرون حتى تأثرت المنطقة بأسرها بما جرى على يد «الذئب الأغبر» الذى نقل بلاده نقلة نوعية ظل أثرها قائماً حتى اليوم، ولذلك فإنه من الصعب أن نتحدث عن ثورة تركية ولكن الأوفق أن نشير إلى مسار إصلاحى تركى منذ نهاية الحرب العالمية الأولى وسقوط الخلافة العثمانية والتحول الجذرى الذى أدى إلى أن تصبح تركيا قوة إقليمية بعدما كانت دولة مترهلة انتهى عمرها الافتراضى.
ثانياً: إن السعى نحو الإصلاح العربى قد يقتضى فى مرحلة معينة ارتداء قبعة «أتاتورك» بدلاً من الطربوش العثمانى على ألا يؤدى ذلك إلى التفريط فى الهوية أو العبث بالثوابت، والأمر لدينا يتجاوز ذلك لتأكيد انتفاء التعارض بين الإصلاح وصيانة الهوية، وقد يكون العكس صحيحاً، إذ إن الإصلاح قد يؤدى إلى تصحيح المسار وبالتالى إلى تعزيز مفهوم الهوية واحترام الشخصية الوطنية شريطة أن يرتبط ذلك بقدر لا بأس به من القدرة على التغيير المستمر لتحقيق الأهداف العليا للحركة الإصلاحية ذاتها.
ثالثاً: لقد ارتبطت أفكار «أتاتورك» فى ذهن العامة بنزعة علمانية تفض الاشتباك بين الدين والدولة، فضلاً عن محاولة «التتريك» التى وصلت إلى حد ترجمة الأذان إلى اللغة التركية، وهو أمر لم يستمر طويلاً لأن القرآن نزل بلسان عربى، كما أن كل ما يتصل بذلك الدين الحنيف تجرى صياغته باللغة القومية وهى اللغة العربية.
رابعاً: إن النموذج التركى يختلف بالضرورة عن غيره من النماذج فى المنطقة، بما فى ذلك النموذج السعودى وربما غيره أيضاً من النظم الخليجية الأخرى، فهى دول لا تعانى من اضطرابات أو قلاقل ولكنها تحتاج فقط إلى القذف بالدولة فى أتون القرن الحادى والعشرين وتأكيد قدرة الجميع على التعامل مع معطياته والمستجدات التى طرأت عليه والروح الدولية المسيطرة على طبيعة النظم الحاكمة والعلاقات المتشابكة بينها حتى نكون أمام قراءة جديدة لموقف دولى مختلف.
خامساً: إن تقنيات العصر وثورة المعلومات وتكنولوجيا الاتصال تسهم فى مجموعها فى تسهيل مهمة التغيير الذى لم يكن متاحاً بهذه الدرجة منذ ثمانين عاماً، كما أن ما جرى فى عشرينيات القرن الماضى لا يمكن القياس عليه بأبجديات العمل السياسى الراهن.
إن ما حدث فى منطقة الخليج وفى أكبر دولة منه لا يمكن القياس عليه بالنسبة لدول أخرى، إذ إن لكل منها خصوصية معينة وظروفاً مفهومة، إلا أن هناك قاسماً مشتركاً يتصل بالبيئة السياسية ومناخ الحريات اللذين يجب أن يكونا متوافقين مع المستقبل الذى تنشده الدولة، ومدركين للماضى الذى تنسلخ منه، بحيث يتم ذلك كله بطرق سلمية بعيداً عن العنف وإظهاراً للحق وإيماناً بالوطنية التى تحدد الطريق الصحيح أمام من يقود الحركة الإصلاحية ويسعى للتغيير الشامل.