بقلم : مصطفى الفقي
أعرفه منذ أكثر من ثلاثة عقود عندما كان يتولى منصبًا رفيعًا فى إدارة شركات شل للنفط وكان مقره فى القاهرة، ولفتت نظرى ثقافته الواسعة وقدرته على الحوار الطويل وامتلاكه لأدوات الجدل حول القضايا المهمة مع إلمام واضح بتاريخ الثقافات المتعددة فى الحضارتين العربية الإسلامية والمسيحية الأوروبية، وكنت أراه أحيانًا أقرب إلى الشخصية الموسوعية التى ضربت بسهم فى جوانب المعرفة والعلوم الإنسانية مع عناية خاصة باستقراء التاريخ واستنطاق أحداثه، ولقد تابعته طوال مسيرته بتقدير يتناسب مع إمكاناته الواضحة، وإن كنت أجفل أحيانًا من مواقفه الحادة وآرائه القاطعة، خصوصًا أننا – المعنيين بالعلوم الاجتماعية – نترك الباب مفتوحًا لكل الآراء ونقبل كل اجتهاد يعتمد على برهان، وقد كان لطارق حجى دائمًا مريدون، وأنا أتذكر الآن أن الروائى والكاتب الصحفى ثروت أباظة كان يحمل له تقديرًا كبيرًا ويكتب عنه بإعجاب شديد، ولا أنكر أننى قد اختلفت معه اختلافًا صامتًا فى فترات من علاقتنا، وربما اختلف هو الآخر من جانبه مع بعض المواقف السياسية التى جنحت إليها فى ظروف معينة، وأتذكر أنه كان وراء إقصاء وزير النفط المصرى منذ أكثر من ثلاثين عامًا عندما أرسل طارق حجى عن طريقى - كسكرتير للمعلومات - للرئيس مبارك مقالًا نشرته (الإيكونومست) حول أداء وزارة البترول المصرية، وقد عرضت معلومات «حجى» على الرئيس الذى تجاوب معها كثيرًا، خصوصًا أن من بعث بها خبير بترولي كبير، وقال: ذكرنى بذلك الأمر عند أول تعديل وزارى، ونسيت الأمر لأن التعديل جاء بعد ذلك بعدة شهور، ولكننى تذكرت فى اللحظات الأخيرة من التشكيل وقد كاد أن يكتمل، فذكّرت الرئيس بما طلب منى، وفى الحال اتخذ قراره بالتغيير وجاء برئيس الهيئة العامة للبترول وزيرًا بديلًا، ولذلك فإننى أظن أن طارق حجى مقاتل دؤوب لا ينسى قضية يدافع عنها ولا يتراجع عن موقف يتبناه، كما أن لديه انحيازًا تلقائيًا للأقليات العددية فى الشرق الأوسط، وفى مقدمتهم أقباط مصر الذين تبنّى كثيرًا من مطالبهم المشروعة وحقوقهم الوطنية، كما دافع عن الأكراد وتواصل مع كل القوى والانتماءات فى المنطقة حتى وصل الأمر إلى مداه وجرى انتقاده بسبب انفتاحه الموضوعى على الخصوم والأصدقاء على السواء فى عالمنا المعاصر، وكانت له مقابلة شهيرة مع رجل روسيا القوى (فلاديمير بوتين)، كما تواصل مع معظم المحافل العلمية ذات الصيت الذائع والمكانة المرموقة، وتجوّل بين دول مختلفة محاضرًا وكاتبًا ومناقشًا ومفكرًا، وأنا أدعو أبناء الوطن إلى احتضان كل من يحمل فكرًا ويسعى نحو المعرفة التى تفتح آفاق الاستنارة وأبواب المستقبل، وأدعو إلى احترام حق الاختلاف فى الرأى والارتفاع بلغة الحوار والابتعاد عن شخصنة الأمور والامتناع عن الحكم على المفكرين وقادة الرأى من خلال زوايا ترتبط بالعلاقات الشخصية أو الانطباعات العابرة، وأنا أظن أن رجلًا من طراز طارق حجى لم يأخذ حقه فى بلاده مؤمنًا بأنه لا كرامة لنبى فى وطنه - كما يقولون - كما أن شاعر الحى لا يطربه، ونحن نبحث بين المفكرين الأجانب ونغض الطرف عن أبناء الأرض الطيبة ونبتها المتميز، وإن كان البعض يعيب على طارق حجى مسحة استعلاء تصدر عن اعتزازه بذاته وتمسكه برأيه، فذلك شأن من أفنوا حياتهم يقرأون ويفكرون ويكتبون، وأنا أعترف شخصيًا أن لغة التواصل قد انقطعت بيننا فى السنوات الأخيرة، ولكن ذلك لم يمنع شغفى الشديد بمطالعة كتبه ومتابعة محاضراته ولقاءاته الصحفية والتليفزيونية والإذاعية، فضلًا عن متابعة صفحاته الإلكترونية التى تحتوى أجندته الفكرية وأنشطته المتصلة.
إننى أهدف من هذه الكلمات أن تدرك الأجيال الجديدة أن الود الفكرى والإشادة الموضوعية هى أمور لازمة بين المثقفين فى بلادنا وأننا يجب أن نستفيد من كل الطاقات الخلاقة وأصحاب الرؤى المبدعة فى هذه الظروف الصعبة التى يجتازها الوطن وهو يقاوم الإرهاب فى جانب ويبنى الدولة الحديثة فى ذات الوقت، ثم يصوغ المستقبل الذى يليق بالكنانة وأبنائها العظام.