عمار علي حسن
.. وتتوزع نظريات النخبة على أربعة اتجاهات أساسية، تبعاً لركائز القوة، الأول تنظيمى ويقف على رأس مبدعيه موسكا وميشلز، اللذان أرجعا قوة النخبة إلى قدراتها التنظيمية الفائقة، والثانى نفسى، ورائده باريتو ويرى أن أفراد النخبة متفوقون على بقية الناس فى السمات النفسية والذكاء العقلى. والثالث اقتصادى، ومن أهم رواده بيرنهام، الذى يؤكد من يسيطر على وسائل الإنتاج أو يديرها هو من له الغلبة، أما الرابع فمؤسسى، ومن أبرز المتحمسين له ميلز، الذى يعتقد أن القوة تكمن فى وجود منظمات رئيسية فى المجتمع تتدرج فى المكانة، ومن يجلسون على رأسها، أو يتولون مناصب عليا بها، هم «نخبة القوة» المتحكمة.
وتسعى أى نخبة سياسية إلى الحفاظ على وجودها واستمرارها، متبعة طريقة للدوران أو التجديد والإحلال، تتم عبر استيعاب الأشخاص والأفكار التى تقع خارجها بما لا يجعل هؤلاء الأشخاص مضطرين إلى تكوين «نخبة مضادة»، فإن فشلت فى تحقيق هذا تسقط تلك النخبة، وتحل أخرى محلها.
وفى كل الحالات يجب على النخبة الراغبة فى أن تستمر فترة أطول فى سيطرتها أن تمتلك مفاتيح تلك السيطرة، والتى تتفاوت من مجتمع إلى آخر، ففى بعض المجتمعات يكون المفتاح عسكرياً، وفى أخرى يكون اقتصادياً وتقنياً، وفى ثالثة يكون دينياً، وأعطى ميشلز هذه العملية برمتها اصطلاحاً لافتاً هو: «القانون الحديدى للأوليجاركية» فيما سماها باريتو «دوران النخبة».
وفى حال فشلت النخبة الحاكمة فى اتباع ممارسات تتواءم مع قيم المجتمع أو صيغته السياسية المتعارف عليها، والتى تحظى بالرضاء، فإن هذه النخبة لا محالة ساقطة، ليفسح الطريق أمام أخرى تحل محلها، عاجلاً أم آجلاً، وستكون مهيأة لإدارة دفة الأمور بما يتسق مع القيم الاجتماعية السائدة.
وقد تبدأ عملية الدوران تلك بممارسة عنف شديد، وهنا يحتاج الموقف إلى نخبة «الأسود»، لكن حين تستقر الأمور وتنتظم، تتضاءل الحاجة إلى الإقدام والشجاعة، وتزداد الحاجة إلى التحايل والمكر، ومن ثم يجد «الثعالب» طريقهم مفتوحاً إلى تولى السلطة وإدارة أمور البلاد، وقد تنجح مثل هذه النخبة ذات الدهاء فى إطالة عمر وجودها فى الحكم إلى درجة فقدان المجتمع لهويته وقدرته على تحديد الاتجاه والافتقار إلى الوضوح، وبعدها يجد المجتمع نفسه فى حاجة مرة أخرى إلى «الأسود».
وعلى المستوى المنهجى، فإن نظرية النخبة واحدة من الأدوات المهمة لتفسير الظواهر السياسية، وقد افتقدها علم السياسة فى مرحلته التقليدية التى عاش خلالها فى حضن القانون منجرفاً إلى «الينبغيات»، وحين استلهمها قادته فى المرحلة الانتقالية إلى «السلوكية» واستمرت بعدها محافظة على اقتدار تحليلى عميق وحيوية منهجية جلية، وساعدت كثيراً على فهم النظم السياسية.
وتنطلق «نظرية النخبة» من افتراض مفاده أن الظواهر السياسية تابعة لظواهر أخرى، ولا يمكن فهمها إلا بتحليل «البنية الاجتماعية» لاكتشاف القوة المنظمة المتحكمة فى مقاليد الأمور، وذلك اتكاء على أن المجتمع مقسم أفقياً إلى طبقات ودرجات ومراتب وشرائح سواء على معايير اقتصادية أو غير ذلك، وهنا تهمل نظرية النخبة التقسيمات الرأسية للمجتمع على أساس دينى ومذهبى وطائفى وإثنى ولغوى وجهوى.
واستعمل هذا المفهوم فى محاولة التغلب على النزعة الماركسية فى تحديد القوة واختزالها فى الجانب الاقتصادى، والإيمان الجازم بحتمية الصراع الطبقى، الذى ينجم عن استماتة الطبقة الحاكمة فى احتكار مراكز القوة والسلطة وحرمان الطبقات المحكومة من المشاركة فى الإدارة والتسيير بما يخلق فجوة اقتصادية وسياسية واجتماعية بين المُهيمِن والمُهيمَن عليه.
ومن أهم الباحثين الذى ساروا على هذا الدرب، تشارلز رايت ميلز، الذى أصدر كتاباً عام 1956 بعنوان «صفوة القوة» انتهى فيه إلى أن هذه الصفوة تتكون من قادة مجالات الأعمال والحكومة والقوات المسلحة، والذين تربط بينهم مصالح وأصول اجتماعية أو خلفية مشتركة وقيم متماثلة ويتبادلون الأفراد العاملين فى القطاعات التى يهيمنون عليها، وقد انبثقت فكرة تحكم «المركب الصناعى العسكرى» فى السياسة الأمريكية من هذا التصور، الذى يرى أن الولايات المتحدة تسيطر فيها النخب على ثلاثة مجالات أساسية وهى الصناعة والسياسة والجيش، وأنه رغم الخلافات والاختلافات التى يمكن أن تحدث بينها فإن ثمة مصلحة مشتركة تدفعها إلى العمل من أجل الحفاظ على نظام يحابيها والدفاع عنه، وثمة قدرة على التفاهم حول ضرورة التوافق حول صيغة موحدة تضمن لها الاستمرار فى الوصاية على جمهور الخاضعين لها.
(ونكمل غداً إن شاء الله تعالى)
نقلاً عن جريدة "الوطن"