عمار علي حسن
طلب منى بعض القراء تعريفاً لمعنى الوطن حين طرحت فى مقال سابق ما يفيد بأن جماعة الإخوان تعتقد فى «دولة الفكرة»، ولذا تبقى مصر بالنسبة لها، سكناً وليست وطناً، دولة ممر وليست دولة مقر، لأنها نازعة إلى وهم اسمه «أستاذية العالم» وولاؤها الأول للجماعة وبقرتها المقدسة وهو التنظيم على حساب مصر وطننا.
وفضلت هنا أن أجيب بطريقة مختلفة بعيداً عن التعبيرات المباشرة لمعنى «الوطن» ومبناه، وسأبدأ من نقطة طريفة نسبياً، تبين أن المتشككين فى الوطنية موجودون فى كل زمان ومكان. فها هى الممرضة الإنجليزية أديث كافيل تقول، قبل أن يعدمها الألمان رمياً بالرصاص لدورها فى معالجة الجرحى ومواساتهم ومساعدة الأسرى الفارين من وجه النازى فى الحرب العالمية الأولى: «لقد أدركت أن الوطنية ليست كافية، المطلوب هو ألا نكره وألا نشعر بروح العداوة إزاء بعضنا البعض»، ويقف الدكتور «جونسون» صاحب أشهر المعاجم الإنكليزية موقفاً أكثر تشاؤماً، حين يعتبر أن «الوطنية هى الملاذ الأخير للأوغاد».
لكن هذه التعبيرات التى جاءت فى لحظات خاصة لم تبين على الوجه الأكمل معنى الوطنية، ولم تعطه قدره ومكانته فى قلب الإنسان وعقله، ابتداءً من «الوطنية المحلية» التى قد لا تكون أكثر من مجرد ضيق أفق، لأنها تنطوى على تعصب شديد للقبيلة والعشيرة والعائلة، وانتهاء بالوطنية الجامعة التى تتعدى حدود الانتماءات الأولية لتشمل «الدولة» الحديثة بأسرها.
ولا نكاد نلمح كلمة وطن فى شعر العرب الأقدمين، والشعر كان كتاب حياتهم، إلا نادراً، ومنها ما أنشده رؤية بن العجاج: «أوطنْت وطنا لم يكن من وطَنى.. لو لم تكن عاملها لم أسكن»، وكان الوطن عند العرب لا يعدو كونه السكن وموطئ القدم، وهو ما يتأكد من تعريف أبى البقاء الكفوى للوطن فى كتابه الأثير «الكليات» بأنه «منزل الإقامة، والوطن الأصلى مولد الإنسان أو البلدة التى تأهل فيها، ووطن الإقامة هو البلدة أو القرية التى ليس للمسافر فيها أهل ونوى أن يقيم فيه خمسة عشر يوماً فصاعداً، ووطن السكنى هو المكان الذى ينوى المسافر أن يقيم فيه أقل من خمسة عشر يوماً»، وقد عبر الرسول صلى الله عليه وسلم بجلاء عن حبه لمسقط رأسه حين توجه إلى مكة دامعاً وهو يرحل عنها مرغماً مهاجراً إلى المدينة: «إنك من أحب بلاد الله إلى قلبى، ولولا أن أهلك أخرجونى منك ما خرجت».
أما العرب المحدثون، فنقلوا المصطلح إلى مستوى أعمق من مجرد البيت والديار، وأداروا حوله جدلاً لا يزال قائماً حول منشئه ومبتغاه، فوجدنا من يقبله ويطوره مثل الإمام محمد عبده الذى عرفه بأنه «المكان الذى للمرء فيه حقوق وواجبات سياسية»، بل هناك من أصبح الوطن فى نظره هو الأولى بالولاء والانتماء والإخلاص، مثل الشاعر والفيلسوف اليمنى الكبير عبدالله البردونى الذى يقول فى عبارة دالة: «تذهب الزعامات وتبقى الأوطان».
فى المقابل وجدنا من يتحفظ على المصطلح مثل عبدالعزيز جاويش الذى اعتبر أن الوطنية مصطلح أجنبى ظهر فجأة بأوروبا فى القرن الثامن عشر، انتقل إلى الشرق من العلوم الغربية التى تنافح عن المدنية الحديثة، بل هناك من يؤكد تشوه المصطلح فى ذاكرتنا ومخيلتنا الجمعية، مثل المفكر التونسى عادل لطيفى الذى يقول: «لو عدنا إلى جذور تبلور هذا المفهوم فى الحالة العربية لوجدناه مرتبطاً إلى حد كبير بالمعاناة المتولدة عن هيمنة الاستعمار، أى سلب الأراضى والاعتقالات والتعذيب والقتل، وكل الحالات المرتبطة بتجربة الاحتلال والمؤسسة على نكران حق وجود الآخر، على عكس الحالة الغربية التى كان فيها وعى الإنسان بالوطن امتداداً لوعى الإنسان بذاته».
نقلًا عن جريدة "الوطن"