توقيت القاهرة المحلي 16:22:01 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الجندى غير المجهول (1-4)

  مصر اليوم -

الجندى غير المجهول 14

عمار علي حسن

تجلى يا ملامح محمد!أغوص فى تلافيف الذاكرة كى أصطادها لكنها تزوغ منى وتنزوى فى أركان النسيان. أعيد الكرَّة فيتشكل أمامى وجه غريب نصفه لمحمد والآخر عاجز عن الالتئام. يتجاور النصفان لكن لا يشكلان الوجه، أحاول وأحاول فتتداعى الصورة شيئا فشيئا، وقبل أن تثبت معالمها يضيع النصفان ويصبح محمد مبهما غريبا رغم أنه جزء منى، ولدتنا أم واحدة والأب رجل واحد.هو صبى فى الخامسة عشرة من عمره، لم أرَه منذ شهور، لكننى أريد أن أراه منذ سنين حين كان طفلا، وها أنا مستلق فى وقدة الظهر أستظل بالمدافع، حولى الجنود يجهزون الذخائر وينظفون المعدات، والصحراء ممتدة لا نهاية لها، تنطق بوعورة المسافات بينى وبين محمد. هناك فى البعيد الأصفر المرقط بخضرة الأحراش المتناثرة تبتسم شفتاه وتتهادان، ها هى تقترب.. وتقترب.. والوجه يستدير، وأكاد أقبض على الملامح، وأكاد أمسكها، ثم لا تلبث أن تضيع ويهرب محمد.تتلاحق الأيام، ومع غروب كل شمس تحترق الملامح بنار الشفق وتذوب فى عتمة الليل. أحياناً تأتينى فى الأحلام لتملأ ساعاتها فرحاً، تجىء أيام طفولتك، وألاحقك، وتجرى نحو الباب إلى الشارع.فى هدأة العصر أنطلق بك إلى الحقل وأنت تصرخ:«تعلب تعلب.. فات فات».أقاسمك الأهازيج مرددا:«وفى ديله.. سبع لفات».هناك تحت السدرة العتيقة نجلس، أشوى لك الذرة وأصطفى الحَبَّ الطرى فيمضغه لؤلؤك فى تلذذ متتابع. يجن الليل فأغرس فيك نبل الحكايات عن البطولة والتضحية. أبسط الكلام وأنت تلتهم الحروف. تسأل فتأتيك الإجابة حتى يغمض جفنك وتروح فى سبات عميق.مذعوراً على صراخ سرينة الإنذار.. أنا ضابط المدفعية معى صفارة فأرد. تزعق فى آذان النيام فيتلاحق دبيب هرولة الجنود إلى المدافع. يأتينى صوت قائد الكتيبة عبر الهاتف غارقاً فى التوجس:- إسرائيل هجمت علينا.تلجمنى العبارة لكننى أستنطقها للجنود:- الحالة قصوى.. قصوى..وبين الجملتين ينتحر الحلم، وتضيع ملامحك تماماً يا محمد.■ ■ ■سماء تنطق باللهب وأرض فارقها الجنود. كل الكتائب حولنا دُمرت إلا سريتنا، سرية مدفعية مضادة للطائرات تبدو كزائدة دودية فى جسد إحدى كتائب الصواريخ، لم ينسَها الأعداء فى زخم المعارك، لكن غلالة النار التى صنعتها مدافعها اليقظة جعلت طائراته تتفاداها وتفر بعيداً عنها.عشرون جندياً مرابطون فوق أربعة مدافع، وآخر يستطلع الأرض والفضاء.أنا أقف فى مركز إدارة النيران بمنتصف الموقع وعلى يمينى تقف أنت يا شعبان تردد الأوامر للجنود. تبدو وديعاً كيمامة، ضعيفاً كفراشة فى رياح عاتية، لكنك تقوى على جسمك النحيل بإرادة صلبة.دنا المغرب، واحمرت مياه القناة باللهب والشفق، وراحت النوارس تمارس طقوسها اليومية. تتجمع سرباً كبيراً وترفرف، تتناثر وتشكل صوراً للخلاص. تعلو فتنتصب الهامات إليها، تقترب فتترامى الأبصار وتتابعها. تتقدم نحو عين الشمس وهى تلملم أشعتها الصفراء الذابلة، ووجهها يتضرج بحمرة المغيب.تبدو نمنمات حمراء ترتعش بين الأجنحة، تضيق وتتسع حتى ينبلج الاحمرار حين تعلو النوارس. كالسهم تمرق وتطعن بطن الفضاء، وتقاوم. راقت لك يا شعبان فكرة وأنت تتابع تحليقها ودورانها، حدجتنى بنظرة خاطفة، وأعدت عينيك إلى الفضاء قائلاً:- نتدرب عليها كأنها طائرات..وعلى الفور صارت النوارس أهدافا كروكية سهلة لمدافعنا. يضبط الجنود تحركاتها فى تليسكوبات المدافع وتصرخ أنت يا شعبان ورائى:- هدف مستوى فى اتجاه 5/12 اشتبك.ويتخيل الضارب أنه يضغط على بدال النيران ونرى جميعاً كأن الجو ملتهب والطائرات النوارس التى أظمأتها الأحزان تتساقط، فنروى أملنا بوهم يسرى فى فضاء النوارس المحلقة دون كلل فوق مدافعنا.تبتسم يا شعبان فيروق سمارك ويتجمل بثنايا الطلع. تزم شفتيك فى حزم وتقترب منى مهرولا. تقف ثابتاً من حديد على قدم طرقت الأرض بشدة وأخرى ملتصقة بها، تتسطح يدك باتجاه وجهك وتصرخ:- تمام يافندم.. تم تدمير كل طائرات العدو.. ذخيرة تمام.. أفراد تمام.. معدات تمام.. تمام..محملقاً وثابتاً أواجهك، أرد التحية العسكرية ويغوص ناظرى فى صفحة وجهك فأراه يبتعد عنى رويداً رويداً وكأنه خيال على مرمى البصر، معلق فوق الرمال وبين الأحراش وحشف الصخر فيبدو كوجه محمد تماماً.. تماماً..(نكمل غدا إن شاء الله تعالى).

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الجندى غير المجهول 14 الجندى غير المجهول 14



GMT 07:12 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

سيد... والملّا... والخاتون

GMT 07:10 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

زيارة محمّد بن زايد للكويت.. حيث الزمن تغيّر

GMT 07:09 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

غلق مدرسة المستقبل

GMT 07:09 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

إنَّ الكِرَامَ قليلُ

GMT 07:08 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

ترمب الثاني... وقبائل الصحافة والفنّ

GMT 07:07 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

مع ترمب... هل العالم أكثر استقراراً؟

GMT 07:06 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

ترمب... ومآلات الشرق الأوسط

GMT 07:05 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

اللغة التى يفهمها ترامب

إلهام شاهين تتألق بإطلالة فرعونية مستوحاه من فستان الكاهنة "كاروماما"

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 22:43 2024 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

عمر خيرت يكشف عن لحظة فارقة في حياته
  مصر اليوم - عمر خيرت يكشف عن لحظة فارقة في حياته

GMT 09:44 2024 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

جورج وأمل كلوني يحتفلان بذكرى زواجهما في أجواء رومانسية

GMT 12:02 2024 السبت ,07 أيلول / سبتمبر

نصائح وأفكار لإطلالات أنيقة ومتناسقة

GMT 20:58 2016 الجمعة ,28 تشرين الأول / أكتوبر

لجان البرلمان المصري تستعد لمناقشة أزمة سورية

GMT 23:21 2018 الأربعاء ,21 آذار/ مارس

تعرفي على خطوات للحفاظ على "لون الصبغة"

GMT 23:40 2018 الأحد ,04 آذار/ مارس

تعرف على سعر ومواصفات سكودا كودياك 2018

GMT 19:31 2018 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

الشرطة تكشف تفاصيل تجريد أستاذ جامعي من ملابسه

GMT 18:47 2018 الثلاثاء ,30 كانون الثاني / يناير

شركة فيات كرايسلر تكشف عن تراجع ديونها بمقدار النصف
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon