توقيت القاهرة المحلي 11:02:08 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الجندى غير المجهول (1-4)

  مصر اليوم -

الجندى غير المجهول 14

عمار علي حسن

تجلى يا ملامح محمد!أغوص فى تلافيف الذاكرة كى أصطادها لكنها تزوغ منى وتنزوى فى أركان النسيان. أعيد الكرَّة فيتشكل أمامى وجه غريب نصفه لمحمد والآخر عاجز عن الالتئام. يتجاور النصفان لكن لا يشكلان الوجه، أحاول وأحاول فتتداعى الصورة شيئا فشيئا، وقبل أن تثبت معالمها يضيع النصفان ويصبح محمد مبهما غريبا رغم أنه جزء منى، ولدتنا أم واحدة والأب رجل واحد.هو صبى فى الخامسة عشرة من عمره، لم أرَه منذ شهور، لكننى أريد أن أراه منذ سنين حين كان طفلا، وها أنا مستلق فى وقدة الظهر أستظل بالمدافع، حولى الجنود يجهزون الذخائر وينظفون المعدات، والصحراء ممتدة لا نهاية لها، تنطق بوعورة المسافات بينى وبين محمد. هناك فى البعيد الأصفر المرقط بخضرة الأحراش المتناثرة تبتسم شفتاه وتتهادان، ها هى تقترب.. وتقترب.. والوجه يستدير، وأكاد أقبض على الملامح، وأكاد أمسكها، ثم لا تلبث أن تضيع ويهرب محمد.تتلاحق الأيام، ومع غروب كل شمس تحترق الملامح بنار الشفق وتذوب فى عتمة الليل. أحياناً تأتينى فى الأحلام لتملأ ساعاتها فرحاً، تجىء أيام طفولتك، وألاحقك، وتجرى نحو الباب إلى الشارع.فى هدأة العصر أنطلق بك إلى الحقل وأنت تصرخ:«تعلب تعلب.. فات فات».أقاسمك الأهازيج مرددا:«وفى ديله.. سبع لفات».هناك تحت السدرة العتيقة نجلس، أشوى لك الذرة وأصطفى الحَبَّ الطرى فيمضغه لؤلؤك فى تلذذ متتابع. يجن الليل فأغرس فيك نبل الحكايات عن البطولة والتضحية. أبسط الكلام وأنت تلتهم الحروف. تسأل فتأتيك الإجابة حتى يغمض جفنك وتروح فى سبات عميق.مذعوراً على صراخ سرينة الإنذار.. أنا ضابط المدفعية معى صفارة فأرد. تزعق فى آذان النيام فيتلاحق دبيب هرولة الجنود إلى المدافع. يأتينى صوت قائد الكتيبة عبر الهاتف غارقاً فى التوجس:- إسرائيل هجمت علينا.تلجمنى العبارة لكننى أستنطقها للجنود:- الحالة قصوى.. قصوى..وبين الجملتين ينتحر الحلم، وتضيع ملامحك تماماً يا محمد.■ ■ ■سماء تنطق باللهب وأرض فارقها الجنود. كل الكتائب حولنا دُمرت إلا سريتنا، سرية مدفعية مضادة للطائرات تبدو كزائدة دودية فى جسد إحدى كتائب الصواريخ، لم ينسَها الأعداء فى زخم المعارك، لكن غلالة النار التى صنعتها مدافعها اليقظة جعلت طائراته تتفاداها وتفر بعيداً عنها.عشرون جندياً مرابطون فوق أربعة مدافع، وآخر يستطلع الأرض والفضاء.أنا أقف فى مركز إدارة النيران بمنتصف الموقع وعلى يمينى تقف أنت يا شعبان تردد الأوامر للجنود. تبدو وديعاً كيمامة، ضعيفاً كفراشة فى رياح عاتية، لكنك تقوى على جسمك النحيل بإرادة صلبة.دنا المغرب، واحمرت مياه القناة باللهب والشفق، وراحت النوارس تمارس طقوسها اليومية. تتجمع سرباً كبيراً وترفرف، تتناثر وتشكل صوراً للخلاص. تعلو فتنتصب الهامات إليها، تقترب فتترامى الأبصار وتتابعها. تتقدم نحو عين الشمس وهى تلملم أشعتها الصفراء الذابلة، ووجهها يتضرج بحمرة المغيب.تبدو نمنمات حمراء ترتعش بين الأجنحة، تضيق وتتسع حتى ينبلج الاحمرار حين تعلو النوارس. كالسهم تمرق وتطعن بطن الفضاء، وتقاوم. راقت لك يا شعبان فكرة وأنت تتابع تحليقها ودورانها، حدجتنى بنظرة خاطفة، وأعدت عينيك إلى الفضاء قائلاً:- نتدرب عليها كأنها طائرات..وعلى الفور صارت النوارس أهدافا كروكية سهلة لمدافعنا. يضبط الجنود تحركاتها فى تليسكوبات المدافع وتصرخ أنت يا شعبان ورائى:- هدف مستوى فى اتجاه 5/12 اشتبك.ويتخيل الضارب أنه يضغط على بدال النيران ونرى جميعاً كأن الجو ملتهب والطائرات النوارس التى أظمأتها الأحزان تتساقط، فنروى أملنا بوهم يسرى فى فضاء النوارس المحلقة دون كلل فوق مدافعنا.تبتسم يا شعبان فيروق سمارك ويتجمل بثنايا الطلع. تزم شفتيك فى حزم وتقترب منى مهرولا. تقف ثابتاً من حديد على قدم طرقت الأرض بشدة وأخرى ملتصقة بها، تتسطح يدك باتجاه وجهك وتصرخ:- تمام يافندم.. تم تدمير كل طائرات العدو.. ذخيرة تمام.. أفراد تمام.. معدات تمام.. تمام..محملقاً وثابتاً أواجهك، أرد التحية العسكرية ويغوص ناظرى فى صفحة وجهك فأراه يبتعد عنى رويداً رويداً وكأنه خيال على مرمى البصر، معلق فوق الرمال وبين الأحراش وحشف الصخر فيبدو كوجه محمد تماماً.. تماماً..(نكمل غدا إن شاء الله تعالى).

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الجندى غير المجهول 14 الجندى غير المجهول 14



GMT 07:08 2025 السبت ,11 كانون الثاني / يناير

عند الصباح: «حَيدروش»

GMT 07:07 2025 السبت ,11 كانون الثاني / يناير

عند الصباح: «حَيدروش»

GMT 07:06 2025 السبت ,11 كانون الثاني / يناير

ساركوزي في قفص القذافي

GMT 07:04 2025 السبت ,11 كانون الثاني / يناير

نعم يا سِتّ فاهمة... الله للجميع

GMT 07:03 2025 السبت ,11 كانون الثاني / يناير

المجتمعات المعنفة!

GMT 07:01 2025 السبت ,11 كانون الثاني / يناير

ثورة الاتصالات والضحايا السعداء

GMT 06:59 2025 السبت ,11 كانون الثاني / يناير

ماسك... رئيس الظل أم الرئيس المشارك؟

GMT 06:57 2025 السبت ,11 كانون الثاني / يناير

رياح الشيطان!

أيقونة الموضة سميرة سعيد تتحدى الزمن بأسلوب شبابي معاصر

الرباط ـ مصر اليوم

GMT 08:41 2025 السبت ,11 كانون الثاني / يناير

أسرار أبرز التيجان الملكية التي ارتدتها كيت ميدلتون
  مصر اليوم - أسرار أبرز التيجان الملكية التي ارتدتها كيت ميدلتون

GMT 08:54 2025 السبت ,11 كانون الثاني / يناير

أبرز العيوب والمميزات لشراء الأثاث المستعمل
  مصر اليوم - أبرز العيوب والمميزات لشراء الأثاث المستعمل

GMT 00:06 2025 الأربعاء ,01 كانون الثاني / يناير

الأمير ويليام يكشف عن أسوأ هدية اشتراها لكيت ميدلتون

GMT 22:40 2019 الأربعاء ,16 كانون الثاني / يناير

وفاة مهندس في حادث تصادم بعد حفل خطوبته بساعات
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon