توقيت القاهرة المحلي 12:59:54 آخر تحديث
  مصر اليوم -

ثورات المصريين (2 - 2)

  مصر اليوم -

ثورات المصريين 2  2

مصر اليوم

ساعدت روح الحضارة العريقة مصر على أن تحافظ على استقلالها الكامل لزمن مديد يربو على ثلاثة آلاف وخمسمائة عام من عمرها المعروفة وقائعه لدينا والذى يصل إلى خمسة آلاف عام. وهذا الاستقلال إما كان مصرياً خالصاً حكمت فيه البلاد أسر منها، أو أسر أجنبية، تمصّرت، وتشرّبت روح هذا البلد العريق، وأدركت أنه أمة كاملة، ولذا قطعت تقريباً الحبل السرى بينه وبين الإمبراطورية الكبيرة، أو خففته حتى صار رفيعاً واهياً. وقد حدث هذا أيام الإغريق والرومان، وفى زمن العباسيين والعثمانيين. وكان هذا الاستقلال فى جلّه الأعظم ثمرة لروح مصر الوثّابة، أو ثورتها المستمرة بأشكال متنوعة، فبعد الثورة ضد بيبى الثانى، قام المصريون عن بكرة أبيهم ضد الهكسوس الغزاة، فخلعوهم من أرض النيل خلعاً، وطردوهم إلى عمق الصحراء البعيدة. ثم جاءت ثورة من نوع آخر، أخذت منحى دينياً وفلسفياً وفنياً خالداً، وقامت على أكتاف إخناتون، الذى نادى بالتوحيد فى وجه تعدد الآلهة، وثار ضد الطقوس الوثنية التى استغلت الدين فى ظلم البشر وتأليه الحكام، ولو قُدر لهذه الثورة أن تنجح لتغير تاريخ العالم برمته. ولما غزا الآشوريون مصر وتزعم باسماتيك ثورة ضدهم حتى هزمهم، وأقام على أنقاضهم حكم الأسرة السادسة والعشرين، التى سلمت الراية لأسرة بعدها خاضت هبات شعبية جارفة ضد الفرس المحتلين، دفع فيها المصريون ثمناً غالياً من أرواحهم الزكية، فى سبيل الحفاظ على نظام حياتهم وطرق معاشهم، التى حاول الفرس تدميرها، حتى جاء الإسكندر الأكبر فأخرجهم من بلادنا، لكنه حل محلهم فى احتلالها. وجاء الدور على الرومان ليذوقوا نوعاً آخر من كفاح المصريين، الذين وجدوا فى تمسكهم بالمسيحية نوعاً من الاحتجاج ضد وثنية الرومانيين، وقطيعة رمزية كاملة وعميقة مع منطقهم الاستعمارى. فلما اعتنق إمبراطور الرومان المسيحية، وجعلها الدين الرسمى لإمبراطوريته مترامية الأطراف، وجد المصريون أنفسهم أمام مأزق شديد، لكنهم سرعان ما وجدوا مساراً لمواصلة كفاحهم، حين ميزوا مذهبهم الدينى عن مذهب الرومان، فتواصل النضال ضدهم، وقدم الأقباط شهداء لا حصر لهم، ولم تتراخ عزيمتهم فى الدفاع عن رؤيتهم الدينية، رغم مغالاة أعدائهم فى اضطهادهم، بل أشعلوا حركات مقاومة متفرقة، فيما هبّ الصعيد فى ثورة عارمة ضد حكم دقلديانوس. وأزاح المسلمون ظلم الرومان عن المصريين، لكن قيام الحكام الأمويين والعباسيين بتحويل الدين إلى أيديولوجيا، قاد بعض أمرائهم إلى التعسف مع الرعية، فرفض المصريون هذا التعسف، ولم يكن الرفض مقتصراً على المسيحيين، بل والمسلمون سواء من أصل قبطى أو من العرب الذين سكنوا مصر قبل ظهور الإسلام بزمن طويل. لكن مصر ولدت ثورات من نوع جديد، حين أخذت على عاتقها الدفاع عن الشرق وعن الإسلام فى مواجهة المغول والصليبيين، من دون أن تنسى الاحتجاج ضد ظلم بعض الحكام الفاطميين والمماليك والأتراك، ووصل الأمر إلى ذروته حين خلع علماء مصر خورشيد باشا، الوالى العثمانى، وعينوا محمد على بديلاً منه. وتصدى المصريون للحملة الفرنسية (1798 - 1801) ببسالة وشجاعة، بعد هزيمة المماليك بسيوفهم الصدئة أمام مدافع جيش نابليون، فقامت هبّتان شعبيتان جارفتان فى القاهرة، أقضّتا مضجع الفرنسيين، وأظهرتا لهم أن بقاءهم فى مصر مستحيل، لاسيما مع فشلهم فى السيطرة على صعيد مصر، الذى خاض أهله نحو اثنتين وعشرين معركة ضد الحملة الفرنسية، علاوة على بعض حركات التمرد والمقاومة التى شملت الصعيد برمته. وحدث الشىء نفسه لحملة فريزر الإنجليزى (1807) الذى انهال أهل رشيد، رجالا ونساء، على حملته ضرباً من كل مكان، وبأى أدوات ممكنة، حتى فر هارباً. وتحدى أحمد عرابى الخديوى توفيق دفاعاً عن حقوق الضباط المصريين، ثم قاد الفلاحين فى مقاومة عسكرية ضد الاحتلال الإنجليزى، ورغم هزيمته، فإن ما أقدم عليه ألهب الشعور الوطنى لدى المصريين، فشنّفوا آذانهم إلى محمد فريد ومصطفى كامل، اللذين دعيا إلى الثورة، وتحقق الأمل مع سعد زغلول ورفاقه فى ثورة 1919 الخالدة، التى شاركت فيها كل فئات الشعب المصرى، مختلفة الأعمار والنوع والمستوى الاجتماعى والدين، فحصد المصريون استقلالاً نسبياً ودستوراً رائعاً، وتعبّد الطريق أمام ثورة يوليو 1952، التى إن كانت قد بدأت بانقلاب عسكرى، فإنها لم تلبث أن تحولت إلى ثورة اجتماعية كاملة، أعادت ترتيب الطبقات المصرية، وحررت البلاد من الملكية الفاسدة والاستعمار الغاشم، وألهمت شعوب العالم الثالث برمته روح التحرر والانعتاق. إن هذا التاريخ الطويل يحمل فى جوفه ثورة دائمة، لكنها طالما توارت خلف تحضر المصريين، وكراهيتهم للفوضى، وقدرتهم على صهر الغريب، وإجادتهم فن المقاومة بالحيلة، وثقتهم فى تدينهم وثقافتهم، فبدا جلّ تاريخ مصر ناراً تستعر تحت الرماد، لا يراها إلا كل ذى عقل فهيم، وبصيرة نافذة. وبعدها جاءت ثورة يناير التى لن تنفكّ إلا إذا حققت مطالبها فى العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ثورات المصريين 2  2 ثورات المصريين 2  2



GMT 07:12 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

سيد... والملّا... والخاتون

GMT 07:10 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

زيارة محمّد بن زايد للكويت.. حيث الزمن تغيّر

GMT 07:09 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

غلق مدرسة المستقبل

GMT 07:09 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

إنَّ الكِرَامَ قليلُ

GMT 07:08 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

ترمب الثاني... وقبائل الصحافة والفنّ

GMT 07:07 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

مع ترمب... هل العالم أكثر استقراراً؟

GMT 07:06 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

ترمب... ومآلات الشرق الأوسط

GMT 07:05 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

اللغة التى يفهمها ترامب

تارا عماد بإطلالات عصرية تلهم طويلات القامة العاشقات للموضة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 22:43 2024 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

عمر خيرت يكشف عن لحظة فارقة في حياته
  مصر اليوم - عمر خيرت يكشف عن لحظة فارقة في حياته

GMT 09:44 2024 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

جورج وأمل كلوني يحتفلان بذكرى زواجهما في أجواء رومانسية

GMT 12:02 2024 السبت ,07 أيلول / سبتمبر

نصائح وأفكار لإطلالات أنيقة ومتناسقة

GMT 20:58 2016 الجمعة ,28 تشرين الأول / أكتوبر

لجان البرلمان المصري تستعد لمناقشة أزمة سورية

GMT 23:21 2018 الأربعاء ,21 آذار/ مارس

تعرفي على خطوات للحفاظ على "لون الصبغة"

GMT 23:40 2018 الأحد ,04 آذار/ مارس

تعرف على سعر ومواصفات سكودا كودياك 2018

GMT 19:31 2018 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

الشرطة تكشف تفاصيل تجريد أستاذ جامعي من ملابسه

GMT 18:47 2018 الثلاثاء ,30 كانون الثاني / يناير

شركة فيات كرايسلر تكشف عن تراجع ديونها بمقدار النصف
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon