عمار علي حسن
تعرض مصطح «النخبة» لتشويه مقصود فى الحياة السياسية التى أعقبت انطلاق «الربيع العربى»، لاسيما فى مصر على أيدى أتباع الإخوان والسلفيين، وكان هدفهما بناء جدار عازل بين «قادة الرأى» والجماهير الغفيرة، حتى يسهل عليهم توجيهها بالطريقة التى تحلو لهم وتحقق مصالحهم. وكان التشويه عميقاً وجارحاً إلى درجة أن كلمة نخبة صارت مصطلحاً سيئ السمعة فى أذهان العوام. لكن هذا الأمر انطوى على شىء إيجابى، يتمثل فى اعتراف غير مباشر من «النخبة الحاكمة» آنذاك بأن «النخبة المضادة» أو «النخبة الثقافية» لها تأثير كبير على الجمهور، الأمر الذى فرض على من يحكمون استخدام كل أساليب الدعاية السياسية فى مواجهة قادة الرأى.
وفى سبيل الرد على كل المزاعم ومحاولات التشويه، أريد هنا أن أطرح المعنى الحقيقى لمفهوم النخبة بعيداً عن الدعاية السياسية الفجة، وأرجو من القراء أن يصبروا ويتمهلوا حتى تنتهى هذه السلسلة من المقالات، التى عدت فيها إلى عشرات المراجع العلمية، كى أجهز تلك المادة التى تمكن القراء من أن يتعرفوا بأنفسهم على معنى هذا المصطلح، ويمتلكوا فى نهاية المطاف القدرة على الرد بأنفسهم على هذه المزاعم.
والنخبة، بشكل عام، هى مجموعة تتفوق على بقية المجتمع، مستندة إلى مركز اجتماعى متقدم، أو ألمعية فكرية، أو قدرة علمية، أو امتلاك ثروة طائلة، أو مرتبة دينية، وقد تمتلك هذه المجموعة بعض تلك الركائز أو كلها فى وقت واحد، وقد ينشد أعضاؤها أنشودة واحدة متناغمة دون حاجة إلى قائد أوركسترا، إذ إن إدراكهم للمصالح المشتركة والمصير الواحد يدفعهم جميعاً للعمل معاً فى سبيل الحفاظ على وجودهم ونفوذهم.
ومفهوم النخبة يطلق على مجموعة تتولى القيادة فى مجال معين من مجالات الحياة، كأن يقال النخبة الثقافية والنخبة العلمية ونخبة الفلاحين ونخبة العمال ونخبة وهكذا، أو تتولى قيادة المجتمع بأسره، وهنا نقول «النخبة الحاكمة» التى تقابلها بالضرورة «نخبة مضادة» تعارضها أو تطرح نفسها بديلاً لها، فحول هذه «النخبة القائدة» هناك دوماً دوائر من النخب «غير القائدة» والفيصل بين الأولى والثانية هو حجم الفاعلية.
وبذا يتعدى تعريف النخبة مجال السيطرة السياسية لتنطبق على أى جماعة أو مجموعة من الأفراد أو صنف من الناس يمتلكون بعض الصفات والسمات التى يثمنها المجتمع ويقدرها، مثل الذكاء العقلى الفارق، والمراكز الإدارية الحساسة، والقوة العسكرية، والسلطة الأخلاقية، أو السمعة العالية والتأثير البالغ، بغض النظر عما إذا كانت التصرفات التى تصدر عنها إيجابية أم سلبية من وجهة نظر المجتمع.
ويبدو أن النهوض بمختلف مجالات الحياة قام على أكتاف مجموعات أكثر مهارة وبراعة وتنظيماً أبدعت فى العلم والفكر والفن والإدارة والتخطيط، وكانت بمثابة القاطرة التى تجر بقية عربات المجتمع نحو الأمام. ولذا قد يكون من الطبيعى أن يقال إن النخب هى التى تصنع التاريخ، وأن غاية ما يتمناه أى مجتمع أن تكون هذه النخبة متفهمة أو متبنية لمطالب الجماهير، وحاملة أشواقهم إلى العدل والحرية والكرامة والكفاية. وحتى فى أدنى حدود الفاعلية فإن مختلف النخب تمارس دوراً واسعاً فى تشكيل القيم وتحديد اتجاهات قطاعات المجتمع التى تمثلها أو الميادين التى برزت فيها.
وفى المجال السياسى هناك عدة مفاهيم أطلقت على المجموعة المسيطرة فى أى مجتمع، وهى «نخبة» و«نخبة حاكمة» و«النخبة السياسية» و«الطبقة السياسية» و«الأوليجاركية». فالمعطى التاريخى يقول بضوح إن السلطة لا يمكن أن يمارسها الجميع، ولا بد من وجود مجموعة صغيرة أو ضيقة أو هيئة تقوم بإدارة شئون المجتمع، وهذه ضرورة سواء فى النظم الديمقراطية أو المستبدة. ونفوذ وسلطان الأقلية المنظمة يتفوق دوماً على نفوذ وسلطان الأكثرية المشتتة، ويجبرها على الخضوع لإرادة ومشيئة المنظمين المتماسكين.
(نكمل غداً إن شاء الله تعالى)
نقلاً عن جريدة " الوطن " .