عمار على حسن
جلس المستشار عادل عبدالحكم يقلب أوراق قضية شهداء الثورة بعقل شارد وخواطر مضطربة. الأوراق أمامه ناقصة. الشرطة لم تؤدِ ما عليها، فالتحقيقات مع الشهود عابرة، والاتهامات عامة، وتذهب فى اتجاهات متضاربة.أغلق «عبدالحكم» الملف، ثم أشعل سيجارة، وسحب منها نفساً عميقاً، وأطلق الدخان ليصنع دوائر متصاعدة، تأخذها النسائم التى تدفقت رخية من النافذة الغربية إلى بعيد.كان مرهقاً وفى نفسه أثقال من الأسى، فصديقه الحميم وزميل دفعته فى الكلية المستشار سيد مفتاح هاتفه ليشكو إليه ما يواجهه فى قضايا الكسب غير المشروع. قهقه فى أذنه وقال له:
- كل الأوراق ناقصة.
- كيف يعنى؟
- لا يمكن أن تمسك فى يدك أى دليل دامغ على شىء.
- لا أعرف كيف حول النائب العام هذه القضايا على هيئتها تلك إلى النيابات؟
- هذا سؤال إجابته معروفة لديك.
- طبعاً، الناس فى الشوارع تعرف الحقيقة، وتفهم أن هناك من عكف أسابيع على طمس الأدلة.
- المتواطئون يجلسون فى مكاتبهم المكيفة، ونحن نواجه رأياً عاماً يزداد ارتيابه فينا يوماً بعد يوم.
راح يذكر نفسه بالمقولة التى رسخت فى رأسه من ذكرها المتكرر على لسان أستاذه فى كلية الحقوق، جامعة القاهرة: «القاضى يتسع صدره حين تضيق صدور الآخرين. وتضيق ذمته حين تتسع ذمم الآخرين».
زفر، ثم دهس ما تبقى من السيجارة فى المطفأة الموضوعة أمامه على المكتب، وقام يقطع الأمتار القليلة التى تشكل مساحة مكتبه يميناً ويساراً، وهذا حاله دوماً حين تسكنه الحيرة، يلف فى مكانه وهو غارق فى تفكير عميق.
بدأ يخاطب أستاذه الذى رحل إلى عالم الحق قبل سنين طويلة، هكذا كان يفعل دوماً كلما هجمت عليه الهموم من كل صوب. تخيله واقفاً أمامه، فرفع إليه عينين منكسرتين، وقال له:
- الصدور ضاقت، والذمم اتسعت.
وتخيله يقول له:
- صبراً.
فقال له بعينين دامعتين:
- كانوا قبل سنين قليلة يقفون أمامنا ويهتفون «يا قضاة يا قضاة.. أنتم لنا بعد الله» والآن يطالبون بتطهيرنا لأن فينا بعض دنس.
- أليس هذا بحق؟
- نعم، دخل فينا من ليس منا، واستغل بعضنا موقعه وفتح الطريق لذويه ليجلسوا إلى جواره، لكن هذا لم يكن بأيدى أمثالى، وأنت تعرف، ونحن لسنا قلة أبداً.
- الأبواب التى دخلت منها الريح النتنة كثيرة، وعليكم غلقها.
- لن تغلق مرة واحدة.
- المهم أن تغلقوها أنتم.
- هذا ما أقوله، لكن هناك من يريد أن يمد يده ليغلقها عنوة.
- هؤلاء يريدون غلق تلك الأبواب ليفتحوا أبوابهم هم، بل لا يريدون غلقها إنما سيفتحون أبواباً جديدة ليقبضوا على العدل ويوجهونه كيفما شاءوا، لهم هم فقط.
- كيف يا أستاذنا؟
- أنسيت ما قلته لك حين زرتنى آخر مرة قبل أن أفارق دنياكم؟
- تقصد ما قلته عن الإخوان وحسنى مبارك؟
- ليس غيره.
- عبارتك لا تزال محفورة فى رأسى:
«الإخوان لا يريدون إصلاحاً حقيقياً ولا تغييراً جذرياً لنظام مبارك، إنما يريدون أن يرثوه كما هو، ثم يديرون فساده واستبداده لصالحهم».
- هذه وليس غيرها، إياك أن تنساها.
- كيف أنسى ما هو ماثل أمامى، أعايشه وأكابده كل لحظة؟
- صدقت نبوءتى.
- كل نبوءاتك تصدق يا أستاذنا. كنت دوماً سابقاً لعصرك.
(نكمل غداً إن شاء الله تعالى)
نقلاُ عن جريدة الوطن