عمار علي حسن
لا يمكن للإخوان أن ينسوا تجربتهم التاريخية مع الجيش، تلك التى رسمت معالمها «ثورة يوليو»، التى بدأت انقلاباً عسكرياً، باركه الإخوان وساندوه ثم تحولت إلى ثورة بفعل قرارات اجتماعية وسياسية واقتصادية مشهودة من قِبل الضباط لا علاقة لها برؤية الإخوان ولا مسلكهم ولا رغبتهم وقتها، حيث تمنوا أن يظل «الانقلابيون» بلا أى ظهير اجتماعى غير الإخوان، فتتمكن الجماعة من فرض شروطها عليهم، وتوجههم نحو أهدافها هى ومشروعها الخاص، ظناً منها أن تلك هى لحظة التمكين التى صنعتها الأقدار بعد اغتيال مؤسسها حسن البنا فى فبراير عام 1949.
تقدم «عبدالناصر» خطوات واتخذ قرارات تاريخية وأطلق مشروعات وفق رؤية تنحاز إلى الفقراء والمطحونين والمهمشين، بعيداً عن مشروع الإخوان الرأسمالى، فأوجد لـ«حركة الضباط» قاعدة شعبية عريضة، مكنته من أن يحسم أمره حيال الجماعة، بعد أن تورطت فى محاولة اغتياله فى المنشية بالإسكندرية، لتبدأ «المحنة»، وفق المصطلح الإخوانى المرير، وتحل هيبة الجيش فى قلوب رجال الجماعة، وتنغلق عليها أسراره بعد أن كانت قد وضعت فيه قدماً لها، وتصاب بمرور الوقت بالتردد والخوف، وتعتقد أنها لا قِبل لها بالمؤسسة العسكرية التى ظلت تمثل الجوهر الأصيل للحكم حتى قيام ثورة يناير.
وأتذكر جيداً أننى كنت مشاركاً فى ندوة عقدها مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان عام 2008 وكان يحضرها عدد من قيادات جماعة الإخوان، من بين الأعضاء الثمانية والثمانين الذين دخلوا إلى البرلمان فى انتخابات 2005، ويومها قلت: «مجلس الشعب المقبل سيكون بلا إخوان، لأنه البرلمان الذى يعدونه من أجل تمرير التوريث»، وهو ما حدث بالفعل فى انتخابات 2010، التى تم تزويرها بالكامل وبطريقة فجة ومستفزة. وعلى الهامش سألنى اثنان منهم: ما العمل؟ فقلت لهما مداعباً: اعملوا ثورة. فما كان منهما إلا أن ضحكا معاً وقال أحدهما باندهاش: ثورة مرة واحدة. فقلت: أعرف أن لفظ ثورة ليس وارداً فى أفكاركم، لكن ما أعرفه أنه لو نزل مائة ألف مصرى إلى شارع قصر العينى وصمدوا ست ساعات لأسقطوا مبارك؟ فابتسم وهز رأسه متسائلاً: وتريدنا نحن أن نفعل ذلك؟ فأجبته: أنا أتحدث عن كل المصريين لكنكم الآن الفصيل الوحيد فى الساحة السياسية الذى يمتلك القدرة على الحشد، وربما هذا يجعل مسئوليتكم مضاعفة. فكر برهة وقال: المشكلة بالنسبة لنا ليست فى الشرطة، فهذه ألفنا التعامل معها واعتدنا طبعها، لكن المشكلة فى الجيش، الذى ينتمى إليه «مبارك»، والذى سيدافع عنه باستماتة، ويسحقنا.
هكذا كانت الصورة التى توارثتها أجيال الإخوان المتعاقبة عن الجيش وموقفه وإمكاناته وصرامة دفاعه عن الحكم، وظلت تجربة الخمسينات والستينات تُقرأ بإفراط داخل صفوف الجماعة، بعد أن تم تضخيمها بشكل مروع فى إطار الدعاية السياسية المضادة لنظام «عبدالناصر»، والرغبة الدفينة فى الانتقام منه. ولذا ظل كل من يطالع كتاب «أيام من حياتى» لـ«زينب الغزالى»، أو «الإخوان فى سجون عبدالناصر» لـ«جابر رزق» وغيرهما، لا يمكنه أن يتجنب تلك الأهوال التى تتسرب إلى صدره، وتستقر فى اللاشعور، وتجعله موقناً بصعوبة، بل استحالة، مواجهة هذا الكيان المسلح، لا سيما بعد أن حاز عناصر أخرى للقوة بعيداً عن البنادق والرصاص، وراح يستعملها بمهارة مناسبة جعلت له فى الوضع الداخلى موقعاً عريضاً، لا يمكن لمن فى الحكم أو حتى فى المعارضة أن يتجاهله.
لكن السؤال الذى يطرح نفسه بإلحاح فى هذا المقام: هل فقط التجربة التاريخية القاسية هى التى جعلت جماعة الإخوان تتهيب الجيش؟ أم إن هناك عناصر أخرى مستجدة ومستمرة، عززت هذه المهابة بمرور الأيام إلى أن وصلنا إلى ثورة يناير 2011؟ (الإجابة فى مقال الغد إن شاء الله تعالى)
نقلاً عن جريدة "الوطن"