عمار علي حسن
تعيد الموجة الثالثة من ثورة يناير على نظام حكم الإخوان إحياء ما طمره النسيان من تاريخ المصريين المديد من احتجاجات وثورات على الطغيان والعوز والمسكنة، لو وضع بعضها فوق بعض لتلاشى الاعتقاد الزائف بأنهم شعب يصبر على الضيم صبراً طويلاً، إما بحكم خوفه على الأرض، أو نزعته الدينية المتأصلة. ويكفينا برهاناً على هذا أن أول ثورة فى تاريخ الإنسانية جرت على ضفاف النيل العظيم، وكانت من الشمول والقوة والعنف إلى درجة أنها هزت ضمائر، وأثارت اندهاش كل من فتشوا فى ماضى مصر ووثائقها، باعتبارها أول دولة عرفها البشر.ولم يقطع أحد بزمن محدد دقيق لهذه الثورة الخالدة، لكن ما ساقه الحكيم «إيبور يشى» بأنها قد وقعت إبان حكم بيبى الثانى، فى سنوات تتراوح تقريباً بين 2280 و2132 قبل الميلاد. وكان السبب الرئيسى لهذه الثورة العارمة هو تفشى الظلم واتساع الهوة بين الطبقات، حيث كانت قلة متخمة من فرط الشبع، وكثرة تعانى من قسوة الجوع، الذى بلغ مداه، حيث أكل الناس العشب، واكتفوا بعضهم بشرب الماء، وعزّ على الطير أن يجد ما يملأ به جوفه، بعد أن نفدت الغلال من الصوامع، وتُركت الماشية تهيم على وجوهها، فهجم الناس عليها وذبحوها والتهموها، حتى فنيت، ووصل الأمر إلى حد أن الناس كانوا يخطفون القاذورات من أفواه الخنازير. ومات خلق كثر، ملأت جثثهم الشوارع والنهر، حتى أصبحت التماسيح تزاور بعيداً عنها، بعد أن أكلت حتى الشبع.
وحين اشتد الجوع بالناس هاجموا بضراوة قصور الحكام والأثرياء، فقتلوا مَن فيها، ونهبوا ما بها، وأشعلوا النيران فى كثير منها، وصار الشعار الذى يسرى فى البلدات الرابضة على ضفتى النيل هو: «لنقص أصحاب الجاه من بيننا».
وترك الثوار بيوت ذوى المال والسلطة خراباً تنعق فيها الغربان، فصار هؤلاء أذلاء من بعد عز، وجوعى من بعد شبع، وبؤساء من بعد تنعم، وهام كثيرون منهم على وجوههم بلا عمل ولا سلطة. وبلغ الانتقام مداه من أبناء الأمراء وأحفادهم ومومياواتهم. واستولى الفقراء الجوعى على ثروات هؤلاء وتحفهم الثمينة، من دون أن يعرفوا لها قدراً، أو يوجد سبيل لبيعها، بعد أن انهار الاقتصاد تماماً، وانتشرت الأوبئة فى كل مكان.
ويصف «إيبور» انتقام مَن أذلتهم الحاجة ممن تمرغوا طويلاً فى النعمة والجاه فيقول: «من كان يرتق نعليه فيما مضى صار صاحب ثروة.. ومن لم يكن فى مقدوره أن يصنع لنفسه تابوتاً أصبح يملك قصراً.. ومن لم يكن باستطاعته أن يشيد حجرة بات يملك فناء مسوراً.. ومن لم يكن يملك ثوراً صار يملك قطعاناً.. ومن لم يكن يملك حفنة قمح أصبح يملك أجراناً.. وأصبحت ربات الخدور يرتدين الخرق البالية، والعقيلات الشريفات يرقدن على الفراش الخشن.. والسيدات النبيلات اللاتى كن متاعاً حسناً صرن يقدمن أجسادهن فى الفراش.. وأولاد رجال البلاط أصبحوا فى خرق بالية، وأولاد الحكام يُلقون فى الشوارع».
وفى أتون هذه الفوضى سقط الحكم بعد أن انهارت الدواوين والمحاكم ونُهبت سجلاتها، وذُبح كبار الموظفين وصار من بقى منهم على قيد الحياة بلا كلمة مسموعة، وعاشت مصر بلا حكام لمدة تصل إلى ست سنوات، فانتشرت عصابات السرقة والقتل، وأفلست الخزانة العامة، ولم ينج قصر الملك نفسه من النهب، ليجد بيبى الثانى نفسه أمام هذه الحقيقة المرة، بعد أن عاش سنوات طويلة مثقلاً بالأكاذيب، عازلاً نفسه عن شعبه، ومسلماً إياها إلى حاشية لا تجيد إلا فن النفاق والكذب والتضليل، ولم يستمع ويعمل بالنصائح المعبرة الأثيرة التى كان يقدمها الملك الفرعونى خيتى إلى ابنه مريكارع، والتى تقول:
«تحلَّ بالفضائل، حتى يثبت عرشك على الأرض
هدئ من روعك الباكى
لا تظلم الأرملة
لا تجرد أحداً مما يملك
ولا تطرد عاملاً من عمله
ولا تغدر بزميل لك تلّقى معك العلم
ولا تكن فظاً بل كن رحيم القلب
اجعل هدفك حب الناس لك
لا ترفع ابن الشخص العظيم على ابن الشخص المتواضع، بل قرّب إليك الإنسان الكفء
ارفع من شأن الجيل الجديد لكى تحبك الرعية، فالمدينة مليئة بالشبان المدربين، فاجعل من هؤلاء أتباعك، وامنحهم الممتلكات، وهبهم الحقول، وائتمنهم على القطعان».
ومنذ هذه الثورة العارمة، ومصر لم تهدأ رغم ظاهرها الذى فسرناه كثيراً بأنه سلسلة من السكون والخمود، لكن الحركة المصرية هذه لم تأخذ طريقاً واحدة، إنما تنوعت بين الثورات والهبات والتمرد وبين العناد والعصيان والمقاومة والإصرار الصارم على التمسك بالثوابت الوطنية، رغم تعاقب المحتلين، بل استدراج هؤلاء رويداً رويداً حتى يذوبوا فى الروح الثقافية المصرية القوية.
(ونكمل غدا إن شاء الله تعالى)
نقلاً عن جريدة " الوطن "