عمار علي حسن
رغم ثورة الاتصالات التى حولت العالم إلى قرية كونية، بل حجرة صغيرة، فإن الجغرافيا السياسية لا تزال قادرة على إقحام نفسها فى تحديد العديد من الممارسات والسلوكيات الدولية والمحلية على حد سواء، ولا يزال بإمكانها أن تمنح وتمنع، تيسر وتعسر، وتفرض على صانعى القرارات ومتخذيها شروطاً من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، تجاوزها، سواء فى المسائل المتعلقة بالأمن أو تلك المرتبطة بالتنمية، أو حتى التى لها وشائج بإدارة الحروب والصراعات المسلحة، بدءاً بما يخص أساليب الدعم اللوجستى، وانتهاء بوضع الخطط الحربية وتحديد سير المعارك.
والجغرافيا هى أحد مكونات نظرية القوة، التى رسختها مدرسة «الواقعية السياسية» فى العلاقات الدولية، وبرز على رأسها عالم العلاقات الدولية هانز. جى. مورجنتاو، الذى جسد حمولة الجغرافيا على السياسة والاقتصاد معاً فى معرض تناوله لما سماه «سلطان الأمة على المسرح الدولى». فقد أجمل عناصر قوة الدولة فى الموقع الجغرافى، والموارد الطبيعية، والطاقة الصناعية، والاستعداد العسكرى، والسكان، والشخصية القومية، والروح المعنوية العامة، ونوع الدبلوماسية، ونمط نظام الحكم، معتبراً أن الجغرافيا هى أكثر العناصر استقراراً فى بناء قوة أى دولة، وإن لم يهمل البصمات التى طبعها التطور التقنى الرهيب فى وسائل المواصلات والاتصالات على الجغرافيا، بما قلص دورها، إلى حد ما. ومع ذلك هناك تأثيرات للجغرافيا على السياسة والاقتصاد لم ينل منها التطور التقنى حتى الآن ومن الصعب تصور إمكان إزاحتها فى المستقبل، لأنها ترتبط بعناصر تتمتع بثبات واستقرار نسبى.
فالجغرافيا السياسية فى تصورها الأخير تحليل لقوة الدولة ووزنها من خلال فحص تركيبها وتكوينها وخصائصها ومعطياتها الطبيعية والبشرية، إذ إنها، وفق ما يرى جمال حمدان، هى: «العلم الذى يضع الدولة فى إطارها الطبيعى الباقى ويردها إلى أصولها الجغرافية الدائمة الوثيقة، يحقق أساسها الطبيعى، يرصد الثوابت والمتغيرات على أطول مدى ممكن فى توجهها وعلاقاتها، ثم يحدد نقط القوة والضعف الكامنة أو الظاهرة فى وجودها السياسى، ومواطن الخطر أو الخطأ فى هيكلها الجيوبوليتكى. إنها باختصار العلم الذى يضع الدولة ككائن حى فى ميزان حساس كما هو، دقيق وتحت مجهر موضوعى متجرد، ليقيس وزنها السياسى، وموقفها فى عالم السياسة، ووقعها عليه محلياً وإقليمياً ودولياً».
وتأتى التجارة فى مقدمة المسائل التى لا تزال تتأثر بالجغرافيا السياسية، انطلاقاً من عمليات استخراج المواد الخام من الطبيعة، وصولاً إلى عملية نقل البضائع براً وبحراً وجواً. وتلك المسألة ليست بنت العصر الحديث بل تعود إلى الأزمان الغابرة. ويظهر تأثير الجغرافيا على التجارة جلياً فى مسألة تأمين الخطوط الملاحية ضد أعمال القرصنة البحرية، جنباً إلى جنب مع تأمينها من الخطورة التى تشكلها الرياح العاتية والعواصف، وكذلك تأمين القوافل التجارية البرية ضد قطاع الطرق.
(ونكمل غداً إن شاء الله تعالى)
نقلا عن المصري اليوم