عمار علي حسن
استمعت ذات يوم إلى رجل إخوانى فى أواسط الأربعينات من عمره، ضاق ذرعا بمواقف الجماعة وتخبطها، ورأى انجراح صورتها فى مخيلة الناس جراء فشلها فى إدارة البلاد، فآلمه ذلك، وأضنته تلك الهوة الواسعة بين ما سمعه من قادته وما رآهم يفعلونه أمامه وأمام الناس أجمعين، فراح يكتب تعليقات على مواقع التواصل الاجتماعى بشبكة الإنترنت فيها نقد لآراء الإخوان وتصرفاتهم، فجاءه تنبيه صارم من قادته المباشرين بأن يكف عن هذا، وحين تجاهلهم وواصل ما يفعله، فوجئ بزوجته تهدده بطلب الطلاق، وأمه تصرخ فى وجهه: «إن لم تسمع وتطيع فلا أنت ابنى ولا أنا أعرفك»، ولأنه لا يريد أن «يخرب بيته» حسبما قال لى، امتثل وصمت على مضض، لكنه استبدل الكتابة فى العالم الافتراضى بتبيان عوار الإخوان وتهافتهم لكل من يسأله عنهم فى أى مكان يذهب إليه.
ومن يصر على موقفه ويغادر الجماعة مستعدا أن يتحمل أى غرم، لا يلبث الإخوان أن يلاحقوه بضراوة، فيطلقون عليه الشائعات من قبيل «جندته مباحث أمن الدولة» أو «فتنته زينة الحياة الدنيا» و«ضعف إيمانه وتراخى عزمه» ويتم هذا بشكل منظم ويهدف ليس فقط إلى تشويه المنسحب من صفوف الجماعة، بل أيضاً ردع غيره، ممن تراودهم أنفسهم أن يحذوا حذوه أو يقتفوا أثره.
والثابت أن الإخوان يمكن أن يتعاملوا مع من ينتقدهم بل يجلدهم من خارج الجماعة، لكنهم يقاطعون من كان بينهم وخرج عنهم، مهما كان حجم تضحياته من أجل الجماعة، ومهما كان طول أمد انتمائه إليها، ومهما كان الأثر الذى تركه أو البصمة التى طبعها على مسارها. وبعض هؤلاء يقضى بقية حياته منكسرا، يرنو إلى الجماعة من بعيد، أو يعيش على ذكرياته معها، لأنه لم يعرف غيرها، وبعضهم يمعن فى التحدى والمواجهة إلى درجة فضح كل شىء من دون وجل ولا هوادة.
وتوظيف الأسرة الاجتماعية لصالح التنظيم خلق تماسكا إجباريا فى صفوف الجماعة لكنه لم يق بعض أفرادها من الصراع الداخلى بين ما يفرضه الدين وما تطلبه الجماعة، وبين ما يراعيه الضمير وما يأمر به التنظيم. ومن ثم يمكن لهذه الرابطة الإكراهية الأشبه بالزواج الأرثوذكسى، أن تخلق نفوسا خائرة، وتصنع أناسا لا يدافعون عن فكر أو نهج أو اعتقاد راسخ فى عقولهم وقلوبهم بل ينافحون عن مصالحهم المادية أو يجنبون أنفسهم كيد الجماعة ونكد الأهل.
وفى تاريخ الإخوان كثيرا ما تمرد أبناء على آبائهم، حين استيقظوا على هوة بين القول والفعل داخل الأسرة الاجتماعية أو تعرضوا لمصادر أخرى لنهل الثقافة والمعرفة أو مروا بتجارب حياتية مختلفة. وهناك شهادة دالة ومهمة فى هذا الشأن للشاب أدهم جمال الذى تعرض لاعتداء وحشى على أيدى الإخوان خلال المظاهرة التى تم تنظيمها أمام مقر مكتب الإرشاد بالمقطم فى 17 مارس 2013، حيث قال: «من ضمن الذين تم اعتقالهم معى صبيان أحدهما يدعى ماجد والآخر أشرف، عرفت منهما أنهما ينتميان إلى أسرتين إخوانيتين، لكنهما خرجا من مكان لتلقى الدروس الخصوصية بالقرب من مقر الإخوان وانضما إلى المتظاهرين وشاركا فى قذف المعتدين بالأحجار. والأول رفض أبوه استلامه من الشرطة حتى يعاقبه على ما فعل، والثانى رفضت أمه أن تعطيه الطعام الذى أحضرته إليه فى مقر احتجازه بقسم شرطة المقطم، حين وجدته مصرا على السخرية من الإخوان وانتقاد أفعالهم».
ومما لا شك فيه أن هذا النمط الاجتماعى والإدارى كان من العوامل المهمة التى ساعدت على استمرار «تنظيم الإخوان» متماسكا وقللت من قدرة منافسيه أو أجهزة الأمن على اختراقه، لكنه فى الوقت نفسه يحمل بذور تصدع التنظيم وضعفه، لأنه يقوم على أمرين متناقضين هما «العبودية الطوعية» و«الإكراه المادى والمعنوى»، فهناك من يعبد«التنظيم» أو يطيعه بشكل أعمى، وهناك من ملأ قلبه التذمر لكنه لا يستطيع أن يجهر بما يعتمل فى صدره، خوفا من أن تستخدم «العائلة الاجتماعية والأيديولوجية» فى الضغط عليه ومواجهته ولو بشكل سافر. فى الحالتين هناك خلل نفسى، وزلل أخلاقى، وخطل اجتماعى، كان مسكوتا عنه قبل ثورة يناير وأيام ملاحقة الإخوان، لكنه لن يظل حبيس النفوس بعد وصولهم إلى الحكم وثبوت فشلهم الذريع فى إدارة الدولة ودخولهم فى صراع مع الكل من أجل مصلحتهم وطريقهم الذى يزعمون أنه مقدس.
نقلاً عن جريدة "الوطن"