مصطفي الفقي
نتحدث جميعاً عن مشكلات «مصر» المعقدة، وأزماتها المستعصية، وعن الحل أحيانا فى إطار الحلقة الشريرة للعلاقة بين الزيادة السكانية ومعدل نمو الناتج القومى كل عام
ويبحث الخبراء الاقتصاديون فى الأمر ويردد الزعماء السياسيون الشعارات بالأمانى الطيبة والأحلام الوردية «ومصر» تراوح مكانها ولا تستطيع الفكاك من قبضة «الفقر» «والجهل» «والمرض» ذلك الثالوث الذى شخصه المصريون، منذ أكثر من قرن من الزمان، بينما الأمر عندى شيء مختلف فلنفتح عقولنا وقلوبنا لاستقبال الحقيقة مهما تكن قاسية وهى باختصار أن مشكلاتنا ليست فى «التعليم» «والعشوائيات» «والرعاية الصحية» وغيرها من القضايا الظاهرة للجميع ولكن المشكلة تكمن - فى نظرى - فى «الإنسان المصري» ركيزة التغيير وجوهر التطور وبؤرة الإنتاج والإبداع معاً، إننى أشعر كثيراً بأن الذى تراجع لدينا فى العقود الأخيرة ليس هو معدل النمو الذى تبتلعه «الزيادة السكانية» ولا «العشوائيات» التى يقطنها الملايين كما أنها ليست فى الصراع السياسى المحتدم ولا فى المخاطر التى تهدد «الأمن القومى المصري» وما أكثرها بدءاً من احتمال دخولنا فى مرحلة الندرة المائية وصولاً إلى الحرب فى «سيناء» مروراً بالمخاطر على حدودنا «الغربية» «والجنوبية» ولكن مشكلة المشاكل وجوهر «المحنة المصرية الكبري» هى الإنسان ذاته، ولعلنا نفصل هنا مانريد الوصول إليه من خلال النقاط الآتية :
أولاً : إن الأمم التى نهضت والشعوب التى تقدمت، إنما اعتمدت على العامل الإنسانى بالدرجة الأولى فقد تكون لدى الدولة موارد طبيعية وفيرة وإمكانات مادية هائلة ولكنها تفتقر إلى الموارد البشرية، إذ ليس لديها من هم قادرون على تكوين العقل الجمعى ودفع روح الأمة، لذلك يتعين أن يكون تركيزنا على العامل الإنسانى تركيزاً بغير حدود، فالعامل البشرى هو قائد التطور وهو محرك التاريخ، ولعل جزءاً كبيراً من محنة «مصر» الحالية إنما يوجد نتيجة لتراجع نوعية المصرى فى ظل أحداث كثيرة ازدحمت فوق سماء الوطن عبر العقود الأخيرة ضاعت فى غمارها كثير من الميزات التى كان المصريون معروفين بها وسيطرت على حياتنا موجات من الجمود والتخلف كان من نتائجها أن غابت «مصر» وانحسر دورها وتراجعت مكانتها فاضطرب سلوك الناس وامتد الانفلات الأمنى ليصبح انفلاتاً أخلاقياً لأننا لم نبن الإنسان سيد الكون وصانع الإنجازات.
ثانياً: إن التعليم هو بوابة المستقبل وهو المدخل الوحيد إلى مجتمع أفضل ولدولة عصرية حديثة تقوم على البحث العلمى والابتكار وإيجاد الأفكار البناءة التى تؤدى إلى ظهور الإنسان السوى المسلح بالعلم والمتميز بالأخلاق ولذلك فإن محنة الوطن بدأت مع تراجع النظام التعليمى أى تراجع نوعية الإنسان المصرى ولست أقصد هنا من حيث الذكاء أو معدل الاستيعاب فتلك طفرات طبيعية تمضى مع حركة الزمن ولكن الذى حدث هو أن النظام التعليمى تهاوى ولم يتمكن من تقديم نوعية متميزة بأعداد كافية تكون كوادر للتنمية أو الديمقراطية، ويكفى أن نتذكر هنا أن خريجى التعليم المتوسط عاجزون تقريباً عن القراءة الصحيحة أو الكتابة السليمة ناهيك عن بعض خريجى الجامعات والمعاهد العليا ممن لايعرفون أولويات العمل المهنى ولا يتقنون لغة أجنبية، لذلك فإن الخيبة الكبرى هى ما جرى لمدارسنا وجامعاتنا فى العقود الأخيرة خصوصاً أن ريادة «مصر» تركزت تاريخياً على القوى الناعمة التى تملكها بدءاً «بالتعليم» مروراً «بالثقافة» وصولاً إلى «الأزهر الشريف» «والكنيسة القبطية» ومازلنا نواجه حتى الآن تراجعاً لدورنا الإقليمي.
ثالثاً: إن غياب الرؤية وفقر الخيال هما ظاهرتان تعكسان حالة الجفاف «الفكري» «والسياسي» «والثقافي» التى تعانى منها «مصر» الآن إذ أن الجامعات لم تعد تضخ عناصر متميزة بنفس القدر الذى كانت عليه من قبل فضلاً عن الزيادة السكانية المهولة والتى تمثل زيادة فى العدد ونقصاً فى النوعية فأصبحنا أمام مؤشرات خطيرة لاستمرار «الحلقة الشريرة» الناجمة عن غياب التخطيط وافتقاد الرؤية فلم نعد قادرين على النظر إلى المستقبل بعينى «زرقاء اليمامة» كما هى الشعوب الواعية عندما تستشرف مستقبلها بل أصبحنا أسرى الأفكار المتخلفة والمعتقدات البالية حيث طغت الخرافة على العلم ولم يعد لدينا ذلك الخيال المتوهج الذى يضيء الطريق نحو المستقبل .. حالة عجز مؤلمة نجمت عن تجريف الكفاءات وتحطيم أصحاب العقول من الموهوبين أو البارزين فى المجالات المختلفة.
رابعاً: إن ما نطلق عليه «فلسفة الزحام» الناجم عن مشكلة الأعداد الكبيرة إنما هى مؤشر لما نعانى منه ولا نستطيع الإمساك به أو الخروج من دائرته، وقديماً قالوا إن الديكتاتوريات تولد من رحم الزحام فالأعداد الضخمة هى التى تولد الضغوط التى تؤدى بدورها إلى ظهور الاستبداد وتوطين الفساد وغير ذلك من الأمراض الاجتماعية التى عانى منها المصريون عبر السنين، ولذلك فإن من يتساءلون قائلين إن التنمية فى «مصر» أقل من مستواها المطلوب وأن الديمقراطية أيضاً تبدو دون طموحات من يحبون «مصر» فالإجابة ببساطة هى أن «مصر» استسلمت لنظرية الأعداد الكبيرة وأغفلت النوعية فى زحام الكمية.
خامساً: إن «التخلف السياسي» و«الضعف الاقتصادي» «والعجز الإداري» تبدو كلها مؤشرات تصب فى مكونات المحنة الكبرى للوطن المصرى ويجب أن نتذكر هنا أن المصريين قد تحدثوا كثيراً من قبل عن المستقبل بصورة حالمة أكثر منها واقعية فنحن بارعون فى البدايات، ولكن لا نستكمل الطريق، ألم نتحدث فى خمسينيات وستينيات القرن الماضى عن الدولة النووية (مشروع صلاح هدايت)؟ دولة الفضاء (القاهر والظافر)؟ (الثورة الخضراء لاستصلاح الصحراء)؟ (الثورة الإدارية ونسف الروتين)؟ تلك نماذج لأفكار طرحناها ومشروعات بدأناها ولكننا لم نكمل الطريق وتوقفنا عند البدايات بينما كان الأوجب علينا أن نمضى فى طريقنا بجدية نحو المستقبل واستمرارية إلى الأمام ولكننا لم نفعل ذلك. إن الشعب الجاد والأمة الرصينة، هما القادران على مواجهة الأزمات الحادة والمشكلات المستعصية والخروج من مأزق المحنة الكبرى .