مصطفي الفقي
تؤرقنى منذ سنوات بعيدة إشكالية معقدة تتصل بالعلاقة بين الرواية التاريخية والرواية الدينية، فالرواية التاريخية تعتمد على أثر قائم أو كيان ملموس فهناك من ملوك الفراعنة «خوفو» و«خفرع» و«منقرع» لأن لهم أهرامات تؤكد وجودهم فى عصرهم، أما الرواية الدينية فهى تقوم على فلسفة «الإيمان» الذى قد لا يكون ملموسًا ولا أثر له، فأصحاب الديانات المختلفة يؤمنون بمعجزات قد لا يقبلها العقل ولكنها تستقر فى الوجدان وتترسب فى أعماق أصحاب العقائد، لأن الأصل فى «الإيمان» هو الاقتناع دون شرط القبول من العقل الدنيوى العابر، ولقد استهوتنى دراسات متعددة قام بها بعض المؤرخين للمقارنة بين توقيت الرواية الدينية والرواية التاريخية واهتم البعض ومنهم الباحث المصرى المقيم فى لندن د. «أحمد عثمان» بالتشابه بين النبى «موسى» فى الرواية الدينية و«إخناتون» الفرعون فى الرواية التاريخية، وقس على ذلك عشرات الأمثلة لأحداث تاريخية تتطابق أو تتشابه مع روايات دينية وقد اعتمد بعض «الملاحدة» على ذلك التشابه فى وصف الديانات السماوية الثلاث بأنها من «أساطير الأولين» فى الإقليم الذى ظهرت فيه «اليهودية» و«المسيحية» و«الإسلام» وهو إقليم «الشرق الأوسط» وواقع الأمر أن هؤلاء الملحدين إنما يقعون فى مغالطة كبرى تتصل بمفهوم «الإيمان» ذاته لأنهم لا ينكرون العقيدة فقط ولكنهم يسخرون من الوجدان الإنسانى الذى هو مزيج من العقل والقلب وعن طريقه يحدث التوازن الروحى لدى المؤمنين بل إننا ما رأينا عالمًا كبيرًا أو طبيبًا شهيرًا أو مفكرًا مرموقًا إلا و«الإيمان» صفة تلازمه، أما المرموقون فى تاريخ البشرية ممن ينكرون «الإيمان» ولا يعبدون الله فهم قلة محدودة بل ورجع معظمهم إلى حظيرة الأديان فى أخريات أيامه، ولا يقتصر هذا الشأن على الديانات السماوية وحدها بل يتجاوز ذلك إلى الديانات الأرضية أيضًا فقد عشت فى «الهند» ورأيت «الهندوس» و«البوذيين» و«السيخ» و«المجوس» وغيرهم من أصحاب المعتقدات الآسيوية يستغرقون فى طقوس يؤمنون بها وشعائر يلتزمون بتأديتها لأن مفهوم «الإيمان» مسألة نسبية تخضع لطبيعة الشعوب وتاريخ الأقوام، ولكن الذى يعنينى فى هذه السطور هو أن أحدث تقاربًا بين الروايتين الدينية والتاريخية على نحو ما فــ«الكعبة» هى «بيت إبراهيم» يطوف حولها المسلمون وهى بذلك تمثل التطابق بين الروايتين الدينية والتاريخية، كما أن رحلة «العائلة المقدسة» فى «مصر» تركت آثارًا ملموسة فى مغارات وأديرة للفترة التى قضوها فى «الكنانة» حتى جاء ذكرها فى العهد الجديد «مبارك شعبى مصر»،
وأنا أتمنى على المؤرخين بل والمفكرين أن يمعنوا النظر فى هذه القضية التى أطرحها وأظن أن أستاذنا الراحل المفكر العملاق «عباس محمود العقاد» قد عنى بشىء من ذلك فى كتب «العبقريات»، إننى أريد أن أجرى مصالحة بين الرواية التاريخية والرواية الدينية على أسس موضوعية وليست تلفيقية، وأظن أن رجلًا مثل العلامة الدكتور «وسيم السيسى» يمكن أن يدلى بدلوه فى ذلك وأنا أداعبه أحيانًا مطالبًا إياه بأن يهجر الطب والتخصص فى فرع المسالك ليتخصص فى التاريخ علم المهالك! ولا شك أن الصراع العربى الإسرائيلى بجانبه الدينى يقترب من تلك القضية المعقدة ففى «القدس» وحدها «حائط المبكى» لليهود، و«كنيسة القيامة» للمسيحيين، و«المسجد الأقصى» للمسلمين، لذلك اكتسبت المشكلة الفلسطينية فى صراعها لأكثر من قرن من الزمان تفسيرات تتداخل فيها الروايتان الدينية والتاريخية وها هى «إسرائيل» ـــ تلك الدولة العنصرية الباغية ـــ تمارس أعمال الحفر تحت «المسجد الأقصى» بحثًا عن «هيكل سليمان» لإيجاد سند تاريخى يبرر الدعاوى الدينية خدمة لأهداف سياسية وأطماع أرضية، إن الذى لا مراء فيه هو أن منطقة «الشرق الأوسط» خصوصًا ذلك المربع الذى يحتوى «الشام» شمالًا والجزيرة العربية جنوبًا و«العراق» شرقًا و«مصر» غربًا هو مربع الديانات السماوية والأنبياء الذين جاءوا لأقوامهم يدعون إلى الفضيلة ويبشرون بحياة أفضل، لا شك أن هذا المربع الغنى بتاريخه الطويل ورواياته المختلفة وهو أيضًا المربع الذى انطلقت منه دعوات السماء فتكالبت عليه أطماع أهل الأرض، وتنافست الديانات الإبراهيمية الثلاث فى حيازة أكبر قدر ممكن من الآثار الباقية لتأكيد الرواية الدينية التى يؤمن بها كل طرف، وإذا كنا نشعر بقواسم مشتركة بين «اليهودية» و«المسيحية» و«الإسلام» وذلك نتيجة التقارب الجغرافى والتشابه الثقافى والتوحد الروحى والتأثر بعصر نزول كل منها، فـ«المسيحية» التى جاءت فى ظل البطش الرومانى تختلف عن «الإسلام» الذى ظهر فى عصر الفساد الجاهلى، ولكن جوهر الديانات فى النهاية يلتقى فى قناة واحدة تصب فى روح الفضيلة والمحبة والتسامح، ولقد تابعت دائمًا بعض الأبحاث الكشفية التى تتحدث عن «سفينة نوح» وموقع الجبل الذى اعتصمت به وأتساءل دائمًا هل هذا كلام علمى دقيق يعتمد على آراء ثقاة المؤرخين والجغرافيين؟ ولكننى أكتشف فى النهاية أن «الإيمان» الصادق يعصم أصحابه من نزوات الرفض ونوبات الإنكار وحالات الابتعاد عن الله ورسالاته السمحاء ولكن ذلك لا يمنعنى من الاسترسال فى المقارنة بين الروايتين التاريخية والدينية تأكيدًا لمزيد من اليقين وترسيخًا للإيمان الذى ينجو بنا من الغرق فى بحار التشتت والضياع، إننا عندما نكتب التاريخ فإنه يجب أن نتحلى بأعلى درجات التجرد والموضوعية حتى نقدم للأجيال المقبلة حقائق لا لبس فيها ولا أوهام حولها ولا أكاذيب تجرفها بعيدًا عن الحقيقة.. إننى أدعو المفكرين والمؤرخين وأصحاب العقائد إلى حوار ملتزم حول قضية العلاقة بين الرواية الدينية والرواية التاريخية دون تعصب وذلك تحت مظلة «الإيمان» المشترك بالله الواحد الأحد ورسله من حملة الدعوة ورواد الاستنارة وحماة الفضيلة.