مصطفي الفقي
إن الذى يتأمل مسيرة الحياة العامة فى مصر سوف يكتشف أن «بورصة البشر» تتأرجح صعوداً وهبوطاً وفقاً لنظم الحكم وطبيعة السلطة بل والجانب الشخصى فيمن يقود البلاد ويحكم العباد، فهناك «نجوم» تهوى و«شهبٌ» تسقط و«نيازك» تختفى، فما أكثر من كنا ننظر إليهم برهبة لا تخلو من خوف واحترام ولا تبرأ من نفاق فإذا بهم يتساقطون، وتبرز رموز جديدة وتسطع فى سماء الوطن أسماءٌ لم تكن معروفة من قبل، إننى أتأمل أحيانًا «سرادق العزاء» فأشهد نماذج للعصر «الناصرى» ثم «الساداتى» ثم «المباركى» وما بعد ذلك وقد تأثرت أسعارهم وفقاً لنظرة «البورصة» لكل عهد مضى أو حاكم رحل بما له وما عليه، كما تمارس سنة الحياة تأثيرها المعتاد فيمن نعرفه من رموز ونجوم، فالموت نهاية كل كائن حى وهو الحقيقة المطلقة فى الحياة التى لم يفلت منها أحد حيث تتكفل الطبيعة بتجديد اللاعبين واللاعبات على مسرح الوطن فى المجالات السياسية والثقافية وقد ترتفع أسهم البعض حتى بعد رحيلهم، ولنا هنا ملاحظتان هما:
أولاً: إن لكل زمان رائحته ولكل عصر عطره، وفترة حكم «الأسرة العلوية» فى مصر لها مذاق خاص يتجاوب مع روح العصر الذى عاشت فيه، فـ«محمد على الكبير» هو مؤسس مصر الحديثة، و«الخديو إسماعيل» هو صاحب «النهضة العمرانية» الكبرى، «ومحمد توفيق» هو الحاكم الوحيد من الأسرة العلوية الذى يمكن دمغه بخيانة الوطن، أما «عباس حلمى الثانى» فهو صديق الحركة الوطنية الذى أطاحت به «بريطانيا»، وهنا نضع فى الاعتبار أن «عباس حلمى الأول» هو حاكم نكرة لا قيمة له فى تاريخ الأسرة، الذين قتلوه فى قصر «بنها» هم خدمه وحاشيته، أما أخوه الأكبر «إبراهيم باشا» فهو أب العسكرية المصرية وسيف أبيه «محمد على» فى الفتوحات والغزوات، ويبقى «سعيد باشا» متميزاً باللائحة «السعيدية» التى تمثل علامة بارزة فى العلاقة بين الأرض والفلاح المصرى، وإذا عدنا إلى السلطان «حسين كامل» فسوف نجد أن فترة حكمه القصيرة جعلت منه رجل «الحماية البريطانية» أكثر منه حاكماً للبلاد، أما «الملك فؤاد» بجهامته وغرابة تاريخه وضعف لغته العربية فإنه رغم ذلك كله قد ترك بصمات على الحياة العلمية والثقافية بدءاً من «جامعة القاهرة» مروراً بالمتاحف وصولاً إلى الجمعيات العلمية وفى مقدمتها الجمعيتان التاريخية والجغرافية، وعندما نأتى إلى آخر ملوك الأسرة ممن حكموا فإن «فاروق» يبدو لنا أفسد من جاءوا بحكم تطور العصر ونمو الحاشية إلا أنه كان وطنياً مصرياً يكره المحتل الأجنبى حتى النخاع متأثراً بحادث 4 فبراير 1942، أما ابنه الذى لم يحكم فقد منحته مصر مؤخراً جواز سفره المصرى بعد أن قلده الرئيس «السادات» سيف أبيه.
ثانياً: إن قيام ثورة 23 يوليو 1952 يضعنا مباشرة أمام الحاكم الوطنى الطيب «اللواء محمد نجيب» الذى دفع فاتورة غالية الثمن فى حياته، وتلاه البطل القومى «جمال عبدالناصر» بما له وما عليه، ولكنه يبقى فى تاريخنا رمزاً للحاكم الوطنى الذى سعى إلى التحرر القومى ووقف فى جسارة أمام الغرب وانحاز للفقراء وانتصر لقضية العدالة الاجتماعية، أما «أنور السادات» فهو فى ظنى «رجل الدولة الثانى» بعد «محمد على الكبير»، فكلاهما امتلك الرؤية لفهم المتغيرات الدولية، وكلاهما أدرك لعبة السياسة العالمية وبرع فى توظيف الدور المصرى على المستويين الإقليمى والدولى، أما «مبارك» فقد كان فى بدايته حاكماً متوازناً ولكن غلبت عليه قوى الثروة المحلية التى زحفت على السلطة وأدت إلى تراجع دوره فى السنوات الأخيرة إلى أن أطاحت به ثورة 25 يناير 2011 فتذكر الناس كل أخطائه ولم يذكروا له مزاياه؟!
إن التاريخ لا يرحم، فالحاضر يحاكم الماضى، والمستقبل يحاكم الاثنين معاً، إنه دهاء الزمن الذى يجعل الرموز تذوى بعد حياة، فالزهور تذبل فى غير أوانها.. إنها فلسفة الكون وطبيعة الوجود!