أمير طاهري
مع إحياء إيران للذكرى الـ36 للثورة الخمينية، يأمل البعض في الغرب في حدوث تغيير في سلوك إيران، لكن إلى أي مدى يتسم هذا الأمل بالواقعية؟
ما هو العنصر المشترك بين جورج كلوني وجاك سترو وزبغنيو بريجنسكي؟ يعد نجم هوليوود الذي يبيع آلات إعداد القهوة عبر الإعلانات التلفزيونية، ووزير الخارجية البريطاني الأسبق، ومستشار الأمن الوطني الأميركي الأسبق، ضمن عدد متنامٍ من أفراد النخبة الغربية الذين يحثون على التقارب مع الجمهورية الإسلامية حتى ولو كان ذلك يعني استرضاء الملالي.
المؤكد أن فكرة إبرام اتفاق مع الملالي ليست بالأمر الجديد، فحتى قبل وصول آية الله خامنئي للسلطة كانت الولايات المتحدة وبريطانيا على اتصال وثيق مع الدائرة الضيقة المقربة منه بفضل شبكة من العملاء الذين يصدرون أنفسهم كأكاديميين ورجال أعمال ومجرد أصحاب نوايا حسنة. الملاحظ أن جميع الرؤساء الأميركيين منذ جيمي كارتر حاولوا إغراء الملالي، بل والبعض منهم، مثل رونالد ريغان، هرب أسلحة لإيران عبر إسرائيل لجعل التوازن يميل لكفة إيران في الحرب الإيرانية - العراقية.
أما فترة الرئاسة الثانية لبيل كلينتون فقد هيمنت عليها خرافة «الصفقة الكبرى» مع إيران. وقد اعتذر كلينتون ووزيرة خارجيته مادلين أولبرايت لطهران عن «أخطاء» لم يتم تحديدها ارتكبتها الولايات المتحدة والغرب بوجه عام على مدار قرون، بل وحاول كلينتون ترتيب مصافحة «عفوية» مع الرئيس محمد خاتمي، لكنه أخفق لأن الأخير صدرت له تعليمات من طهران بالنأي عن قائد «الشيطان الأعظم». وفي ما يلي نص ما قاله كلينتون خلال اجتماع على هامش المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس بسويسرا «تعد إيران اليوم، بصورة ما، الدولة الوحيدة التي تحظى الأفكار التقدمية داخلها بعدد كبير من الأنصار. وهناك تحظى الأفكار التي التزم بها بالحماية من قبل أغلبية».
وفي ما يلي أيضا نص ما قاله كلينتون خلال مقابلة تلفزيونية مع تشارلي روز «إيران الدولة الوحيدة بالعالم التي عقدت حتى الآن ست انتخابات منذ انتخابها محمد خاتمي للمرة الأولى (1997). وهي الدولة الوحيدة، بما في ذلك الولايات المتحدة وإسرائيل وأي دولة أخرى ترد على ذهنك، التي عقدت انتخابات فاز فيها الليبراليون أو التقدميون بما يتراوح بين ثلثي و70 في المائة من الأصوات خلال ست انتخابات: اثنتين رئاسيتين واثنتين برلمانيتين واثنتين لاختيار العمداء. وخلال كل من هذه الانتخابات كان يفوز الأشخاص المنتمون لنفس أفكاري بما يتراوح بين ثلثي و70 في المائة من الأصوات. وليست هناك دولة أخرى في العالم يمكنني إطلاق القول ذاته عليها، وبالتأكيد لا ينطبق هذا الأمر على بلادي».
ويعني ذلك أن كلينتون رأى أن الجمهورية الإسلامية أكثر «تقدمية» عن الولايات المتحدة أو أي ديمقراطية غربية أخرى.
ومع ذلك، فإنه منذ انتخاب باراك أوباما رئيسا وصلت جهود «استرضاء الملالي» إلى ذروتها داخل الولايات المتحدة. ومن بين الأسباب وراء ذلك انبهار أوباما بالنظام الخميني. عن ذلك، قال صادق زيباكلام، الأستاذ بجامعة طهران والذي تربطه صلات بإدارة الرئيس حسن روحاني «أوباما يتفهم ثورتنا. وسيكون من غياب الحكمة ألا نستجيب لإبدائه حسن النية». وأضاف أنه باعتباره رجلا أسمر اللون يشعر «بمعاناة أجيال من العبيد الأفارقة» و«مذبحة الأميركيين الأصليين»، وأنه ليس بوسع أوباما سوى الإعجاب بمن يتصدون لـ«البلطجة الأميركية». وقد كتب أوباما خمسة خطابات على الأقل لكل من الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد والمرشد الأعلى علي خامنئي، يقر خلالها ضمنيًا طموح الجمهورية الإسلامية نحو التحول لـ«قوة عظمى» إقليمية.
وقد حث أوباما الملالي على العمل على كسر العزلة المفروضة على بلادهم. واستطرد بأنهم إذا فعلوا ذلك فإن «هناك مواهب وموارد هائلة داخل إيران، وستصبح قوة إقليمية ناجحة للغاية». كما تجاهل أوباما خمسة قرارات صادرة عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بخصوص المشروع النووي الإيراني، سعيا وراء التوصل لاتفاق مع طهران يقوم على شروط مثيرة للشكوك. في هذا الصدد، أعرب حميد زمردي، الباحث السياسي بطهران، عن اعتقاده أن «أوباما ليست لديه مشكلة في استعراض الجمهورية الإسلامية قوتها في الشرق الأوسط، ففي ظل حكم الشاه كانت إيران قوة عظمى بمباركة الولايات المتحدة. وأوباما على استعداد لتقديم المباركة ذاتها على النظام الراهن في طهران. إلا أن المشكلة تكمن في اعتقاد النظام الإيراني الراهن أن باستطاعته التحول لقوة إقليمية عظمى من دون مباركة أميركية».
بوجه عام، يمكن القول إن التوجه الغربي حيال النظام الخميني اعتمد على خرافتين على الأقل، أولاهما: التعامل مع هذا النظام باعتباره دولة قومية طبيعية تسعى وراء مصالح طبيعية كتلك التي تسعى وراءها أي دولة قومية كلاسيكية تقوم على النظام الويستفيلي. في العادة، تهتم الدولة القومية بالأمن والتجارة والوصول للموارد الطبيعية والأسواق، وأن تجري استشارتها بخصوص القضايا الإقليمية والعالمية، بجانب بالطبع التمتع ببعض المكانة الرفيعة. بيد أنه مثلما الحال مع الأنظمة الثورية الأخرى، لا يتصرف النظام الخميني، بل وليس بإمكانه التصرف، كدولة قومية كلاسيكية.
في ظل هذا النظام، أجبرت إيران على التصرف كقضية، بمعنى أن هذا النظام لا يرغب في أي شيء محدد لأنه يرغب في كل شيء، فهو نظام يعتبر نفسه المالك الوحيد لـ«الشرعية» بين الـ190 عضوا بالأمم المتحدة، ولا يعتبر نفسه ملزما بأي قوانين دولية وضعها «الصهاينة وعباد الصليب». ومن جانبهم، يبدو أن الغربيين الساعين لإبرام «صفقة كبرى» مع إيران يعتقدون أن باستطاعتهم ذلك بسهولة. عام 1990، قال هانز ديتريتش غينشر، وزير خارجية ألمانيا الغربية آنذاك «نخطط للذهاب لطهران للتعرف على ما يريدونه ومنحهم ما هو معقول». وبعد مرور ربع قرن، لا يزال أوباما يسير خلف السراب ذاته.
الملاحظ حاليا أن هناك جهودا منظمة للتوصل لاتفاق، تقريبا أي اتفاق، مع طهران بخصوص طموحاتها النووية.
خلال الفترة الأخيرة من رئاسة أحمدي نجاد، عرض أوباما عددا من التنازلات الكبرى على إيران عبر مفاوضات سرية عقدت في عمان، تضمنت الاعتراف بحق إيران في تخصيب اليورانيوم «حتى نقطة محددة» وذلك في انتهاك لقرارات مجلس الأمن المطالبة بتوقف إيران تماما عن التخصيب. من بين التنازلات الأخرى منح روسيا، التي تعتبرها طهران قوة قادرة على تحقيق توازن أمام الولايات المتحدة وأوروبا، دورا مباشرا في المفاوضات. وبدا أن اتفاقا أصبح وشيكا خلال المحادثات التي عقدت في كازاخستان، لكنها انهارت بعد مطالبة «المرشد الأعلى» علي خامنئي، بتقديم «مزيد من التوضيحات».
وتجددت الآمال في التوصل لاتفاق مع فوز فصيل علي رفسنجاني في الانتخابات الرئاسية عام 2013. وقد نظرت إدارة أوباما لفصيل رفسنجاني المرتبط بصلات مع واشنطن منذ فترة «إيران غيت» منتصف الثمانينات باعتباره فرصة لإقناع الجمهورية الإسلامية بالتخلي عن طموحاتها الثورية التبشيرية والشروع في التصرف كدولة قومية، وليس كقضية. وتجاهلت إدارة أوباما حقيقة خطأ تقديرات مشابهة من قبل خلال فترة رئاسة كل من رفسنجاني وخاتمي.
الملاحظ أن عشرات الأوراق البحثية ومقالات الرأي الصادرة عن مراكز بحثية أميركية ومفكرين أفراد تروج لخرافتين، أولهما: أن فصيل رفسنجاني، الذي يضم خاتمي وروحاني، مهتم حقا بالإصلاح، والأهم من ذلك أنه قادر على إعادة توجيه النظام بعيدا عن استراتيجية ثورية ونحو منهج إصلاحي. في الواقع، إن افتراض أن فصيل رفسنجاني ملتزم بالإصلاح أمر مفتوح للنقاش والجدال، فخلال 16 عاما متتالية من سيطرة هذا الفصيل على جهاز الدولة في ظل قيادة رفسنجاني وخاتمي، لم يطرح هذا الفصيل إصلاحا واحدا كبيرا على الأصعدة السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية. أما المدافعون عنه فيلقون باللوم عن هذا الإخفاق على عاتق الفصيل الذي يقوده خامنئي الذي يفترض أنه مناهض للإصلاح ودائما ما يميل للاعتراض على أي تغيير. بيد أن هذا المبرر من المتعذر تقبله لأنه ليست هناك حالة واحدة لتقديم رفسنجاني أو خاتمي مشروعا إصلاحيا، واعتراض خامنئي عليه.
أما الخرافة الثانية فهي أن المطلوب هو حدوث تغيير في سلوك الجمهورية الإسلامية. بيد أن المشكلة هنا تكمن في أن سلوك الجمهورية الإسلامية هو نتاج مباشر لطبيعتها كنظام ثوري، وليس نتاجا لخيار تكتيكي من قبل هذا الفصيل أو ذاك. الملاحظ أن اللوبي الإيراني في واشنطن ولندن، من بين عواصم أخرى، لطالما حلم بحل للمشكلة الإيرانية على غرار «نيكسون في الصين»، وتعترف الغالبية بأن هذه المشكلة تشكل جذر جميع المشكلات الأخرى في الشرق الأوسط اليوم. ويستقي هذا الحلم إلهامه من زيارة الرئيس ريتشارد نيكسون الرسمية للصين عام 1972 التي أدت لتطبيع العلاقات بين واشنطن وبكين.
في هذا الصدد، قال فلينت ليفيريت، المحلل السابق لدى وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) «ينبغي أن يفكر الرئيس في الذهاب لطهران». وقد لقيت هذه الفكرة استجابة متعاطفة داخل بعض المراكز البحثية الأميركية. بيد أنه مثلما الحال مع جميع المقارنات التاريخية، فإن الاعتماد على زيارة نيكسون للصين هنا قد يكون مضللا لعدة أسباب عند تطبيقه على إيران.
أولا: المبادرة وراء زيارة نيكسون للصين جاءت من قبل بكين وليس واشنطن. فبحلول نهاية ستينات القرن الماضي بدأت الصين في تقييم الأضرار التي ألحقتها بنفسها خلال قرابة عقدين من الجنون الثوري، خاصة بعد عام 1966 عندما أسفر ما أطلق عليه «الثورة الثقافية العظيمة» عن مآس لا حصر لها بالبلاد. بحلول مطلع سبعينات القرن الماضي كانت الصين تتعافى للتو من سلسلة من المجاعات، وقعت في معظمها جراء سياسة الجماعية التي طبقها ماوتسي تونغ، وهي مآس حصدت أرواح 45 مليون شخص على الأقل، تبعا لما أورده فرانك ديكوتير في كتابه الرائع «مجاعة ماو العظيمة».
الأسوأ من ذلك أن الصين اعتبرت نفسها محاطة بأعداء. ومن الناحية الجيوسياسية، تعد الصين أمة «جزيرة». إلى الشمال، توجد صحراء منغوليا الشاسعة وأرض خراب لا نهاية لها هي سيبريا. إلى الغرب، يوجد عدد من الصحاري المتصلة ببعضها البعض وهضبة مرتفعة تفوق مساحة أوروبا. وتحيط مرتفعات الهيمالايا البلاد من الجنوب الغربي. وإلى الجنوب والجنوب الشرقي، تحيط بالصين غابات مدارية هندية وهندو - صينية.
عبر المياه الواقعة إلى الشرق تواجه الصين اليابان، عدوها التاريخي، ومن بعيد يلوح خطر الولايات المتحدة داخل المحيط الهادي. من بين جيران الصين الـ14 لا يمكن وصف أي منهم، ربما ما عدا باكستان، بغير العدائي، خاصة أن هناك نزاعات بين الصين وبينها جميعا.
يذكر أنه في ستينات القرن الماضي، أقدم الاتحاد السوفياتي ببساطة على ضم مساحات واسعة من الأراضي الصينية لأراضيه بعد سلسلة من المناوشات عبر الحدود. وقد وقعت قطيعة بين العملاقين الشيوعيين جراء معارضة ماو الصريحة والقوية لـ«التنقيحية الآيديولوجية» التي اتبعها نيكيتا خروشوف. من جانبها، أنزلت الصين سلسلة من الهزائم بالجيش الهندي، وضمت مساحات واسعة من الأراضي الهندية إليها. كما عمدت الصين للانتفاع من الاضطراب الذي سببته حرب فيتنام، حيث ضمت لها أراضي فيتنامية. بحلول عام 1971، هزمت باكستان، الحليف الوحيد المفترض للصين، على يد الهند، بمعاونة الاتحاد السوفياتي، مما سمح بظهور بنغلاديش، وهي دولة أخرى مناهضة للصين. وخشي البعض داخل بكين من إمكانية وقوع سيناريو مشابه في التبت أو حتى شرق تركستان بدعم هندي وسوفياتي.
ونظرا لافتقارها لقوة بحرية وجوية قوية، شعرت الصين آنذاك بأنها مكشوفة في مواجهة خصمها الآيديولوجي السوفياتي والقوة الأميركية العظمى التي لا تزال تلعق جراحها التي منيت بها في كوريا وفيتنام. لذا كان من المنطقي أن تقلل بكين من نبرة خطابها المناهض للولايات المتحدة.
وكمراسلين، عاينا تبدل النبرة الصينية في مطلع سبعينات القرن الماضي خلال أول زيارة قمنا بها للصين. في ذلك الوقت، كانت الصين قد بدأت في تحسس إمكانية استعادة الروابط الدبلوماسية مع إيران كخطوة أولى نحو بناء حوار مع الولايات المتحدة، حليف إيران القوي آنذاك. كمستشار للأمن الوطني بإدارة نيكسون، زار هنري كيسنجر طهران مرتين وسافر لإسلام آباد، العاصمة الباكستانية، لعقد محادثات سرية مع مبعوثين صينيين. من جهته، قال أردشير زاهدي، وزير الخارجية الإيراني آنذاك، وهو عامل محوري في صياغة حوار بين واشنطن وبكين «كانت الرسالة الصينية لنا واضحة، أنه ليس من مصلحتنا السماح للاتحاد السوفياتي بأن يصبح حكما يفصل في حياة وموت الأمم داخل القارة الآسيوية بأكملها».
إلا أن استجابة الأميركيين لعروض السلام التي تقدمت بها الصين جاءت فاترة، خاصة أن كيسنجر لم يكن على دراية كبيرة بالشأن الصيني وكان ينظر للعالم من منظور التاريخ الأوروبي الذي لعبت خلاله روسيا دورا محوريا لمدة قرن على الأقل. وكان حينها يضع اللمسات النهائية على استراتيجية التفاهم التي صاغها لتحقيق نوع من الشراكة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. واتضح فتور واشنطن حيال قبول العرض الصيني عبر سلسلة من المطالب التي صممت لتفكيك «الشبكة الثورية» العالمية للنظام الشيوعي. ورغبت واشنطن في وضع نهاية لدعم الصين لـ«حركات التحرر» في أفريقيا، خاصة أنغولا وموزمبيق وناميبيا. وأذعنت الصين بسحب البساط من تحت أقدام حلفائها. ومن جهتها، رغبت إيران في وقف دعم الصين للتمرد الذي تقوده عناصر شيوعية داخل إقليم ظفار العماني، مما يسمح لإيران بإرسال قوة عسكرية لسحق المتمردين. وبالفعل، أذعنت الصين لذلك.
من جهته، أطلق ماو على الولايات المتحدة «النمر الورقي»، مانحا بذلك ما عرف باسم «عصبة الأربعة» شعارهم المفضل. وتألفت «عصبة الأربعة» من جيانغ كوين زوجة ماو، وياو وينيوان أحد مفكري الحزب، وزهانغ تشونكياو ووانغ هونغوين، وكانوا معارضين بشدة لأي تقارب مع الولايات المتحدة. حتى في سبتمبر (أيلول) 1971 عندما أجرينا مقابلة مع جيانغ كوين وياو وينيوان، الذي كان عمدة شنغهاي آنذاك، لم يكن باستطاعتهما نسيان شعاراتهما المناهضة لواشنطن. ومع ذلك، فإنه حتى في ذلك الوقت بدا واضحا أن الفصيل الخاص بهما أصبح خاسرا وفقد سيطرته على المؤسسات العسكرية والأمنية، مما جعله عاجزا عن التأثير بقوة على صناعة السياسات الصينية.
وجاء السقوط الرسمي لـ«عصبة الأربعة» عام 1976 بعد شهور قليلة من وفاة ماوتسي تونغ، حاميهم. إلا أن المسار العام للأوضاع كان قد انقلب نحو عكس توجهاتهم بحلول عام 1971.
عندما ذهب نيكسون للصين، كانت القيادة الصينية قد قررت بالفعل إقرار تغيير استراتيجي في مسارها. واحتاج بعض القادة، أمثال دنغ شياوبنغ وزنغ شوان، والد الرئيس الحالي تشي جين بينغ، لمزيد من الوقت قبل العودة لمراكز صنع القرار. إلا أن الطريق كان ممهدا أمامهم من قبل رئيس الوزراء تشاو إن لاي، وأقرب معاونيه أمثال هوا كوو فنغ ولي هسين نين. وأصبح تطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة ممكنا لانتصار الفريق الإصلاحي وتمكنه من تحويل الجمهورية الشعبية من «قضية» إلى دولة قومية.
أما الوضع داخل إيران فمختلف تماما، حيث سعى فصيل رفسنجاني دوما لاستغلال تطبيع العلاقات مع واشنطن كأداة للفوز في صراع على السلطة في مواجهة خصوم راديكاليين في طهران. وربما كانت هذه هي الرسالة التي دأب جواد ظريف، وزير الخارجية الإيراني الجديد، على إلقائها على مسامع وزير الخارجية الأميركي جون كيري في جنيف عندما عقد الاثنان محادثات لمدة 20 دقيقة خلال سيرهما في الهواء الطلق بعيدا عن أي ميكروفونات مخبأة. ويختلف وضع إيران اليوم عن وضع الصين عام 1972، حيث لا تخشى الجمهورية الإسلامية من التعرض لأي غزو من أي من جيرانها. وبفضل الولايات المتحدة، تخلصت إيران من أكبر تهديدين لها: صدام حسين بالعراق وطالبان في أفغانستان.
كما لا تواجه إيران خطر مجاعة وشيكة. في الواقع، لم تعان إيران من مجاعات منذ عام 1865. كما أن القيادة الإيرانية الراهنة التي تضم مواطنين أميركيين وحاملين لـ«البطاقة الخضراء» وغيرهم ممن درسوا وعاشوا بعض الوقت بالولايات المتحدة، تملك تفهما أفضل لكيفية عمل القوة الأميركية عما كان عليه الحال بين الصينيين عامي 1971 و1972. وهم يدركون أن أوباما، كرئيس في نهاية فترته الرئاسية، يختلف عن وضع نيكسون، الذي كان حينها في بداية فترة رئاسته الثانية (إلا أنه طرد من منصبه قبل إكماله فترة رئاسته بسبب فضيحة «ووتر غيت»).
وربما يكون الأهم من ذلك أن الولايات المتحدة اليوم في ظل قيادة رئيس غامض مثل أوباما، الذي يكن تعاطفا سريا مع الثورة الإسلامية، ليست هي الولايات المتحدة عام 1970 عندما كانت في ذروة قوتها ونفوذها.
من جانبه، تساءل نصير أميني «لماذا ينبغي أن تقدم الجمهورية الإسلامية لأوباما أي شيء بينما يصف هو نفسه بأنه درع إيران في مواجهة الكونغرس الأميركي؟ لقد التقى كيري ظريف ما لا يقل عن 12 مرة، وهو عدد يفوق بكثير لقاءاته بنظرائه من حلفاء الولايات المتحدة. إن إيران بمجرد أن تشير بإصبعها تهرول نحوها أميركا فرحة». لقد قررت الصين تغيير مسارها وإعادة تعريف نفسها لأنها لاقت الكثير من العقبات الصعبة بطريقها. أما إيران بفضل ضعف، إن لم يكن جبن، خصومها الإقليميين ومن خارج الإقليم، فهي لم تواجه مثل هذه العقبات حتى الآن.