بقلم : أمير طاهري
عندما علقنا في مقال نشر مؤخراً عن جهود قوات حلف شمال الأطلسي (ناتو) ومحاولاتها خلق جسر للتواصل مع الجيش الإيراني، لم نكن نتوقع أي تطور سريع في هذا الإطار. كان هذا ما حدث بكل دقة الأسبوع الماضي عندما ترأس رئيس الأركان الإيراني الجديد، الجنرال محمد حسين باقري، وفداً عسكرياً سياسياً في زيارته للعاصمة التركية أنقرة استمرت ثلاثة أيام سبقتها مفاوضات مكثفة لعدة شهور بين الدولتين الجارتين. وتعد الزيارة تاريخية لأربعة أسباب:
فقد كانت تلك هي المرة الأولى التي يزور فيها قائد الأركان تركيا منذ استيلاء نظام الملالي على السلطة عام 1979. فقبل استيلاء الملالي على السلطة، كانت إيران وتركيا حلفاء بمقتضى ثلاث اتفاقيات عسكرية؛ الأولى هي اتفاقية سعد آباد التي كانت من بنات أفكار رضا شاه إيران ومصطفى كمال أتاتورك، أول رئيس للجمهورية التركية، وكانت الاتفاقية بمثابة العمود الفقري للعلاقات منذ حقبة العشرينات حتى الحرب العالمية الثانية. والاتفاقية الثانية كانت «اتفاقية بغداد» التي ضمت أيضاً بريطانيا العظمى والعراق، وانتهت الاتفاقية عام 1958 بحدوث الانقلاب العسكري الذي أزاح الملكية في العراق. وسرعان ما حلت «الاتفاقية المركزية» محل «اتفاقية بغداد» التي تضمنت باكستان، إلى جانب باكستان. وكان من المقرر انضمام الولايات المتحدة، لأن القانون الإيراني يحظر وضع قواتها المسلحة تحت قيادة أجنبية، وهي النقطة التي أصرت عليها واشنطن وكانت السابقة التي حدثت للمرة الأولى عن طريق حلف الناتو.
وفي النهاية، استقرت الولايات المتحدة على أن تصبح عضواً منتسباً بـ«الاتفاقية المركزية»، بينما في الحقيقة تتعامل مع الاتفاقية كهمزة وصل بين الناتو و«اتفاقية حلف جنوب آسيا» التي سيطرت الولايات المتحدة عليها أيضاً. حدث بعد ذلك أن انقسمت «الاتفاقية المركزية» عندما أخرج شهبور بختيار إيران من التحالف، وكان شهبور آخر رئيس وزراء في عهد الشاه، لكنه لم يستمر في منصبه سوى لسبعة وعشرين يوما، وكان هدفه من إخراج إيران هو إسعاد الملالي الذين قاموا بالثورة عام 1978. وكانت الاتفاقيات الثلاث - سعد آباد وبغداد والاتفاقية المركزية - جميعاً تعني أن الجيشين الإيراني والتركي بمقدورهما إقامة علاقات واسعة ووثيقة على جميع المستويات. وكانت محادثات هيئة الأركان المشتركة تعقد كل ستة أشهر، خدم المئات من الضباط في كل جيش في صفوف الجيش الآخر، بما في ذلك القوات الجوية والبحرية في إطار برنامج تبادل قوي.
استفاد آلاف الضباط من الجانبين من المحاضرات الخاصة لتعليم اللغتين التركية والفارسية في إطار تعزيز الصداقة الحميمة التي نشأت بين الجانبين، بدءاً من القادة نزولاً إلى رتبة الجنود.
واشتركت القوات الجوية في الرتب العسكرية نفسها التي حددها الناتو في البداية، ولأن الدولتين كانتا تستخدمان أنواع الأسلحة نفسها التي صنعتها الولايات المتحدة، فقد تمكنا من تنسيق العمليات المشتركة في مواجهة العدو المرتقب في ذلك الوقت، وكان الاتحاد السوفياتي هو ذلك العدو. وفي عام 1974، وخلال الأزمة القبرصية عندما غزا الجيش التركي شمال قبرص، قامت إيران بإرسال المئات من جنودها الذين تلقوا تدريباً أميركياً إلى تركيا في عرض رمزي لدعمها المناهض لكل ما يعادي تركيا، سواء من قبل اليونان أو أي دولة أخرى من حلف الناتو.
لأكثر من ثلاثة قرون، أي منذ اتفاقية «قصر شيرين» (1623 - 1639)، استمر الإمبراطور العثماني وإيران في التعايش في سلام، بينما كانا يواجهان الخطر الروسي المتنامي. وحتى بعد سقوط الخليفة في إسطنبول، استمرت إيران في النظر إلى تركيا كجارها الوحيد المؤتمن.
غير أنه مع تكون النظام الخميني، تحولت تركيا فجأة إلى «عدو»، وتباهت بنظامها العلماني، وأصرت على الفصل بين الدين والحكم، في وضع معاكس تماماً لما دعا إليه آية الله روح الله الخميني، مؤسس النظام الإيراني الجديد. والأسوأ من هذا أن تركيا كانت حليفاً مقرباً من «الشيطان الأكبر»، الولايات المتحدة، وقدمت ثاني أكبر جيش بحلف الناتو. وفي الوقت الذي تورط فيه الخميني في عمليات الإعدام الجماعي التي تعرض لها ضباط الجيش الإيراني، فقد تمكن العديد من الضباط من الفرار إلى تركيا ليتمتعوا بالحماية التي وفرها حلفاء «الاتفاقية المركزية» السابقون. وفي عام 1983، أمر الخميني بتأسيس الفرع التركي لـ«حزب الله» للاضطلاع بالإطاحة بالنظام العلماني في أنقرة. وعندما فقد حزب العمال الكردستاني غالبية قاعدته في سوريا عقب اعتقال قائده عبد الله أوغلان، وفر النظام الخميني الملاذ الآمن للجماعة الماركسية الانفصالية المسلحة على الأرض الإيرانية. نتيجة لذلك تدهورت العلاقات لدرجة حدوث عدد من الاشتباكات الحدودية المحدودة في فترة التسعينات. وبدأ الغرض من زيارة باقري هو فتح صفحة جديدة. والسبب الثاني الذي جعل من زيارة الجنرال زيارة تاريخية هو أنها عكست تفهم الجانبين أنه ليس بإمكانهما أن يتمنيا السيطرة على بلاد الشام - العراق وسوريا ولبنان والأردن - من الاعتراف بمصالح بعضهما البعض. وفي الوقت الذي يسعى فيه النظام الخميني إلى مجال لتحقيق ما يعتبره ثورة، تحاول تركيا المحافظة على أمن شعبها في مواجهة الجماعات الكردية المسلحة التي ربما تتحد في وقت ما بهدف تأسيس دولتهم المستقلة في بعض مناطق سوريا والعراق وتركيا. لكن القلق بشأن الأطماع الكردية ليس السبب الوحيد للقلق من أنقرة وطهران، فالاثنتان قلقتان أيضاً من حصول روسيا على نفوذ كبير باستغلالهما للغياب الحالي لوجود غربي موثوق عن منطقة الشرق الأوسط. وعلى الرغم من التحالفات التكتيكية مع روسيا بشأن سوريا، حيث تمثل روسيا العدو القريب لتركيا والعراق في ضوء تاريخ الحروب والعداوات الذي يتجاوز عمره 200 عام. لكن السبب الثالث الذي جعل من زيارة باقر لتركيا زيارة تاريخية هو أنها ستسهم في مواصلة التواصل العسكري الإيراني مع الناتو بعد أن انقطع عام 1979. ومن المؤكد أن هذا ليس سوى تواصل غير مباشر ومحدود. بيد أن الجنرال خلوصي أكار، رئيس الأركان التركي، يعتبر يدا قديمة لحلف الناتو في ضوء مشاركته في العديد من أقسام الحلف، تحديداً في وحدة الاستخبارات بمدينة نابولي الإيطالية. كذلك فإنه من المؤكد أن اللقاءات المخطط لها بالمستويات الأدنى في الجيش على الجانبين ستوسع نطاق الصلة بينهما وتعطيها شكلاً ممنهجاً، مما يتيح للناتو فرصة الفهم الأفضل لعقلية قادة الجيش الإيراني الذي برز كلاعب مهم في مرحلة ما بعد الخميني. وكان لحلف الناتو اتصالاته غير المباشرة مع العديد من الضباط الخمينيين على مدار السنوات الماضية، وذلك من خلال أقربائهم المقيمين في أوروبا وأميركا الشمالية. لكن الآن فإن الصلة التركية توفر قناة اتصال رسمية لتبادل المعلومات والرسائل.
في النهاية، فإن مهمة رحلة الجنرال باقري في أنقرة تعتبر تاريخية، لأنها تبين ما استمر كثيرون منا يرددونه لسنوات كثيرة من أن السلطة الحقيقية في طهران تكمن في يد خامنئي الذي يعتمد بشكل متزايد على الجيش، وأن الناس التي تلعب دور الرئيس والوزير وغيره ما هم إلا مغنون أعطوا دوراً ليؤدوه في أوبريت الخميني.
كما نرى في صفحات التاريخ دائماً، فإن ما تناولناه هنا ينطوي على بعض المفارقات أيضاً. فرغم أن الرئيس رجب طيب إردوغان فتت النموذج التركي، بحيث بات الجيش يمثل العمود الفقري للسلطة في البلاد، فقد تكون إيران تتبنى نسخة من هذا النموذج تمثلت في الزيارة الرسمية التي قام بها الجنرال باقري على رأس وفد سياسي وعسكري كبير.
فالدخان الذي تصاعد في أنقرة بعد لقاء باقري وإردوغان ربما يتراقص في الهواء لبعض الوقت قبل أن يتخذ شكلاً واضحاً.