توقيت القاهرة المحلي 03:39:57 آخر تحديث
  مصر اليوم -

كوريا الشمالية: لعبة الخداع والتراجع

  مصر اليوم -

كوريا الشمالية لعبة الخداع والتراجع

بقلم : أمير طاهري

لا يزال من المبكر للغاية محاولة التكهن بما ستنتهي إليه العاصفة التي أثارها سلوك كوريا الشمالية في الأيام الأخيرة. هل سينتهي الأمر بضربة «جراحية» من جانب الولايات المتحدة للمواقع النووية في كوريا الشمالية؟ أم أنها ستؤدي إلى «كارثة عالمية»، مثلما يحذر فلاديمير بوتين المعروف بميله إلى المبالغة؟
وإذا نظرنا إلى الماضي للاسترشاد به، فسنجد أن الكارثة الأخيرة من المحتمل أن تتلاشى، مثلما كان الحال مع ست أزمات سابقة أثارتها كوريا الشمالية منذ سبعينات القرن الماضي. 

في ظل حكم عائلة كيم، شكلت كوريا الشمالية، من خلال نموذج سلوكي متكرر، مصدراً لاستفزاز الولايات المتحدة، ناهيك عن الدول المجاورة، على نحو مباشر وغير مباشر، مثل كوريا الجنوبية واليابان، بل وحتى الصين وروسيا.

من ناحية، يرى البعض أن هذا النموذج السلوكي المعروف باسم «الخداع والتراجع»، لا يعدو كونه مؤشراً على الضعف المتخفي في صورة قوة. إلا أنه بالنظر إلى أن الأمر يتضمن أسلحة نووية، أعتقد أنه يتعين على المرء التعامل مع الاستفزاز بجدية. من جانبهم، لطالما اعتمد آل كيم على الغموض في إطار استراتيجية يتبعونها منذ عقود لضمان البقاء.
وقد نجحت هذه الاستراتيجية؛ لأن عائلة كيم لم تبالغ في خطواتها، وإنما التزمت القواعد الصارمة للمجازفة المحسوبة.

وبالنظر إلى وضعهم الحالي، فلا بد أن عائلة كيم تعي جيداً أن ثمة خيارات جيدة محدودة أمامهم، ويتمثل أحدها في التحرك بصدق نحو إعادة توحيد شطري شبه الجزيرة الكورية. إلا أنه في هذه الحالة، ستصبح نهاية آل كيم أمراً محتوماً. في الواقع، هذا تحديداً ما حدث مع ألمانيا الشرقية الشيوعية، عندما ابتلعتها الجمهورية الألمانية الفيدرالية.

جدير بالذكر أن عدد سكان كوريا الجنوبية يبلغ 52 مليون نسمة، ما يعادل ضعف سكان الشطر الشمالي. وتحتل كوريا الجنوبية المركز الـ13 عالمياً بين أكبر اقتصادات العالم، بإجمالي ناتج داخلي نحو تريليوني دولار، ما يجعلها أكثر ثراءً بكثير عن جارتها الشمالية. ويقترب متوسط دخل الفرد السنوي في كوريا الجنوبية من 40 ألف دولار، مقارنة بـ1700 دولار في كوريا الشمالية. في الحقيقة، تعتبر كوريا الشمالية أشد فقراً من اليمن وجنوب السودان، وتحتل المركز الـ213 من بين إجمالي 220 دولة عالمياً.

ويتمثل خيار آخر في أن تغزو كوريا الشمالية جارتها الجنوبية، بهدف فرض الوحدة تحت مظلة نظامها. إلا أنه حتى من دون «المظلة الدفاعية» الأميركية، تبقى كوريا الجنوبية دولة غير هينة عسكرياً. وباستثناء الأسلحة النووية، تملك كوريا الجنوبية ترسانة من الأسلحة الحديثة التي لا تحلم كوريا الشمالية بامتلاكها يوماً. إضافة لذلك، فإن بإمكان كوريا الجنوبية تعبئة جيش قوامه أكثر من 800 ألف مقاتل، ما يعادل ثلاثة أضعاف جيش جارتها الشمالية. في المقابل، يملك الشمال ميزة الأسلحة النووية، لكن بالتأكيد لن يكون من السهل استخدام هذه النوعية من الأسلحة ضد الجنوب دون تعريض الشمال للتلوث النووي هو أيضاً. ويعيش نحو 70 في المائة من سكان شبه الجزيرة الكورية المقدر عددهم بـ80 مليون نسمة، على أقل من 15 في المائة من إجمالي المساحة البالغة نحو 200 ألف كيلومتر مربع.

ويعني ذلك أنه ليس بمقدور آل كيم فرض حكمهم على شبه الجزيرة بأكملها، سواء من خلال سبل سلمية أو بالقوة. 

ويكمن خيار آخر أمامهم في التزام الهدوء والابتعاد عن الاستفزازات. إلا أن هذا أيضاً يشكل خياراً مرتفع المخاطرة، ذلك أنه يعني التعايش السلمي مع كوريا الجنوبية، الأمر الذي سيؤدي بدوره إلى تبادل زيارات وتنامي العلاقات التجارية، وقدوم استثمارات من ناحية الجنوب. في مثل هذا السيناريو، سيشكل ثراء الجنوب والحرية التي ينعم بها وأسلوب حياته الرغد، تحدياً مستمراً أمام الحياة المتقشفة التي يوفرها آل كيم لمواطنيهم. ومن جديد، تفرض تجربة ألمانيا الشرقية بعد إطلاق فيلي برانت سياسة تطبيع العلاقات مع الكتلة الشرقية في أوروبا، نفسها على الأذهان.

إلا أن التساؤل هنا: كيف يمكن لعائلة كيم ادعاء الشرعية، وإقناع أبناء كوريا الشمالية بتجاهل الإغراءات التي ينطوي عليها النموذج الكوري الجنوبي؟

من بين السبل الممكنة رفع لواء الاستقلال، من خلال سياسة «الاعتماد على الذات» التي ترفع شعار أنه في الوقت الذي يملك فيه الجنوب الخبز، فإن الشمال يملك العزة والكبرياء؛ لأن الجنوب «ليس سوى عبد للأميركيين»، بينما يقف الشمال متحدياً «الهيمنة» الأميركية.

من ناحيتهم، يعي آل كيم جيداً أن اختلاق شجار مع الولايات المتحدة يخدم نظامهم؛ لكن من الضروري ألا يتجاوز مثل هذا الشجار حدوداً معينة بما يجبر واشنطن على الرد.

وعليه، نجد أنه في كل أزمة يثيرها آل كيم منذ سبعينات القرن الماضي، لم تتجاوز كوريا الشمالية قط حدوداً بعينها. وفي كل مرة، نجحت في الحصول على امتيازات وتنازلات من جانب واشنطن مقابل تهدئة الأزمة المصطنعة. وقد بدأ هذا النمط في عهد الرئيس جيمي كارتر، وبلغ ذروته في عهد الرئيس بيل كلينتون الذي بعث وزيرة خارجيته مادلين ألبرايت إلى بيونغ يانغ، وعرض بناء مفاعلين نوويين لحساب آل كيم.

في الواقع، من الحقائق التي كثيراً ما يجري إغفالها، أن الولايات المتحدة ساعدت على امتداد العقود الأربعة الماضية، في إنقاذ كوريا الشمالية من ثلاث مجاعات كبرى.

الحقيقة أن سعي نظام ما لتعزيز موقفه من خلال اختلاق شجار مع الولايات المتحدة فن لا تقتصر ممارسته على نظام كوريا الشمالية، وإنما بدأه السوفيات منذ ستينات القرن الماضي. ومن أبرز الأمثلة على ذلك أزمة الصواريخ الكوبية، التي عاونت في رسم صورة الاتحاد السوفياتي كقوة عظمى عالمياً. وخلال ستينات ومطلع سبعينات القرن الماضي، سارت الصين الشيوعية، التي تنظر إلى الولايات المتحدة باعتبارها مجرد نمر مصنوع من ورق، على النهج ذاته، من خلال شن هجمات من حين لآخر، ضد كنمن وماتسو، والدخول في مناوشات مع تايوان.
من جانبه، تمكن النظام الخميني في إيران من تعزيز وضعه الواهن، من خلال شن غارة ضد السفارة الأميركية في طهران، واحتجاز من بها من أميركيين رهائن لمدة 444 يوماً.

اللافت أن استراتيجية كيم نجحت مع إدارات أميركية متعاقبة، والتي تظاهرت في كل مرة بالغضب؛ لكن انتهى بها الحال لتقديم تنازلات أمام بيونغ يانغ.

من جانبه، طرح كلينتون تحليلاً طريفاً لهذا الأمر، بقوله: «دائماً أسأل نفسي: هل يمكنني قتل هؤلاء الناس غداً؟ وإذا كانت الإجابة نعم، فلماذا إذن أفعل ذلك اليوم؟».

الواضح أن آل كيم اعتمدوا على هذا التحليل، وأثبتت الأيام صحة موقفهم، ذلك أنه بغض النظر عما تفعله كوريا الشمالية، لن تحاول الولايات المتحدة اليوم ما تعتقد أن بمقدورها فعله غداً.

أيضاً، تتماشى الأزمة التي اختلقها كيم مع مصالح الصين التي لا ترغب في ظهور كوريا موحدة، والتي ربما تتحول إلى يابان أخرى، بمعنى أن تصبح قوة اقتصادية كبرى، وربما تشكل عقبة عسكرية محتملة أمام الأطماع الإقليمية لبكين.

أيضاً، لا بد أن روسيا سعيدة بتشتيت كيم أنظار العالم بعيداً عن مشاكسات بوتين، في الوقت الذي ترسم صورة لأميركا أمام العالم كدولة ضعيفة ومترددة.

وربما تتوافق هذه الأزمة مع مصلحة نظام الرئيس ترمب، من خلال تحويل الأنظار على امتداد أسابيع بعيداً عن مشكلات أخرى تواجهها الإدارة.

ورغم أنه ليس مفترضاً من الصحافيين التنبؤ بمستقبل الأحداث، دعونا نخرق هذه القاعدة، ونقول إن الأزمة الحالية التي أثارتها كوريا الشمالية، ستتلاشى بحلول موعد انعقاد دورة الألعاب الأوليمبية القادمة في كوريا الجنوبية، في فبراير (شباط) المقبل. 

حقيقة الأمر أن كيم حقق بالفعل أهدافه المتمثلة في تعزيز صورة نظامه، والخداع بخصوص ترسانته النووية، دون مواجهة عواقب قاسية. وبالتالي، ليست لديه مصلحة في دفع الأمور لأبعد من ذلك.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

كوريا الشمالية لعبة الخداع والتراجع كوريا الشمالية لعبة الخداع والتراجع



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

الملكة رانيا تربعت على عرش الموضة بذوقها الراقي في 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 15:49 2024 السبت ,28 كانون الأول / ديسمبر

شيرين عبد الوهاب تعود لإحياء الحفلات في مصر بعد غياب
  مصر اليوم - شيرين عبد الوهاب تعود لإحياء الحفلات في مصر بعد غياب

GMT 11:46 2024 السبت ,14 كانون الأول / ديسمبر

مبابي أفضل لاعب فرنسي في موسم 2023-2024 ويعادل كريم بنزيما

GMT 08:32 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

ايجابيات وسلبيات استخدام ورق الجدران في الحمامات

GMT 08:50 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

المجوهرات العصرية زيّنت إطلالات الملكة رانيا في 2024

GMT 09:07 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

الملكة رانيا تربعت على عرش الموضة بذوقها الراقي في 2024

GMT 09:32 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

إطلالات للمحجبات تناسب السفر

GMT 10:42 2018 الخميس ,19 إبريل / نيسان

بولندا خرقت القانون بقطع أشجار غابة بيالوفيزا

GMT 23:19 2018 السبت ,07 إبريل / نيسان

كلوب يحمل بشرى سارة بشأن محمد صلاح

GMT 01:19 2018 الأربعاء ,07 شباط / فبراير

لاتسيو يحتفظ بخدمات لويس ألبيرتو حتى 2022

GMT 07:17 2018 الخميس ,25 كانون الثاني / يناير

وفاء عامر تبدي سعادتها لقرب عرض مسلسل الدولي

GMT 09:03 2018 الإثنين ,22 كانون الثاني / يناير

فيسبوك يُجهّز لتسهيل التطبيق للتواصل داخل الشركات الصغيرة

GMT 20:34 2018 الإثنين ,15 كانون الثاني / يناير

حبيب الممثلة المطلقة أوقعها في حبه بالمجوهرات

GMT 04:40 2017 الأربعاء ,27 كانون الأول / ديسمبر

أشرف عبد الباقي يسلم "أم بي سي" 28 عرضًا من "مسرح مصر"
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon