بقلم - خالد الحروب
ما الذي يربط بين تهويمات المسيحية الصهيونية للرئيس الأميركي دونالد ترامب ونائبه مايك فينس وسفيره في إسرائيل ديفيد فريدمان حول القدس، وتهويمات بعض «رواد» ذلك التيار المسيحاني في فلسطين من رحالة وقناصل غربيين؟ اعتراف واشنطن بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية لها يتبدى، وكأنه خلاصة لأزيد من قرنين من الهوس الإنغليكاني المتعصب بفكرة إعادة اليهود إلى فلسطين تسريعاً في الظهور الثاني للمسيح. تفيض كتابات الرحالة الأميركيين والبريطانيين على وجه التحديد في القرنيين الثامن عشر والتاسع عشر بمثل تلك التهويمات، وهي الكتابات التي شكلت أحد اهم الأسس الثقافوية والتخيلية التي بُنيت عليها السياسات الأنكلو- أميركية تجاه فلسطين. فما رسمته تلك التصورات حول فلسطين تمحور حول بدائية من فيها بل وخلوها من الناس وضرورة إعادة «إحيائها»، وهو الإحياء الذي يجب أن يتم على يد الشعب الذي اختاره الله لها. في معظم أن لم يكن كل تلك الكتابات كان هناك طمس وإسكات للعرب الفلسطينيين سكان الأرض. وفي أحسن الأحوال كانوا يوصفون بأنهم مجرد قبائل بدوية غير مستقرة متواصلة الترحال، تأتي عبر نهر الأردن أو من جنوب النقب، ثم تواصل ترحالها. ليس ثمة حواضر مدينية في تلك الكتابات وحيثما أضطر كاتب ما للتوقف عند مدن وحواضر قائمة وتعج بالحياة مثل يافا وحيفا وعكا ونابلس والقدس والخليل وغزة، كان ينصرف للحديث عن الحضور الغربي والسياسة والحكام الأتراك.
وفي سياق فهم تواصل تلك النظرة الدينية المتعصبة والإحتقارية جوهرياً تجاه فلسطين والعرب وثقافتهم عموماً، يبهرنا الباحث والمُترجم والروائي الفلسطيني جمال أبو غيدا بإنجاز كبير يضيفه إلى المكتبة العربية، وهو الترجمة الكاملة لكتاب مُوسع من جزئين تركه القنصل البريطاني في القدس جيمس فن، والذي خدم في المدينة بين سنوات 1846 و1863. حديثاً صدر الكتاب بالعربية تحت عنوان «أزمنة مثيرة: وقائع سجلات القنصلية البريطانية في بيت المقدس 1853ـ1856» عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، وقدم له جوني منصور، مُترجما عن الأصل الإنكليزي:
Stirring Times: Or Records from Jerusalem Consular Chronicles of James Finn of 1853 to 1856
وما يقدمه الكتاب للقارئ العربي يمثل شهادة تاريخية غنية التفاصيل وفي غاية الأهمية حول مرحلة بالغة الحساسية، لعب فيها قناصل الدول الغربية أدواراً هامة في تحديد مصائر الشرق خلال حقبة الغروب والتفكك العثماني. الكتاب الذي بين ايدينا يتجاوز الألف صفحة من القطع الكبير، أبدع أبو غيدا في ترجمته من ناحية الدقة المُتناهية والرصانة والجهد المبذول والتحقق من المعلومات والوقائع ومقارنتها بمصادر أخرى (توراتية، ولاتينية، وإيطالية، وسواها)، مُضافاً إلى ذلك كله ملحق من أربعين صفحة لفهارس الأعلام والأماكن.
وقائع ومذكرات جيمس فنحافلة، فهو يسجل أدق التفاصيل وبدرجة مدهشة: الحوادث المختلفة صغيرها وكبيرها وأسماء المنخرطين فيها، الحياة اليومية له ولمرافقيه وللرحلات التي كان يقوم بها في أرجاء فلسطين، تفاصيل حيوات واهتمامات وصلوات «الجالية الإنكليزية» و «يهود القدس المساكين» الذين اتفقت بريطانيا مع السلطة العثمانية بإيوائهم تحت حماية القنصلية البريطانية، القرى الفلسطينية المحيطة بالقدس وبيت لحم وأسماء العائلات وأسماء أهم الشخصيات والرموز فيها، رصد حركات الرحالة البريطانيين والأميركيين وكذلك الأوروبيين القادمين إلى البلاد المقدسة، وخاصة أولئك المتجهين إلى الأماكن القديمة حول نهر الأردن وجبل مؤاب، العلاقات مع القناصل الأوروبيين الآخرين ومتابعة أخبار حرب القرم ضد روسيا وتطوراتها وتقدم أو تأخر الجيش العثماني، وانعكاس ذلك على سكان فلسطين وخوف المسيحيين من أي انتصار روسي، هذا إضافة إلى حركة الرسائل الرسمية والدبلوماسية والتجارية القادمة عن طريق البحر، فضلاً عن متابعة الوضع الاقتصادي والتجاري خاصة في أوقات المجاعة وندرة القمح وزيادة الاحتكار ورصد الفروقات في الأسعار. ما يورده جيمس فن من تفاصيل خاصة إزاء حوادث وتطورات وأماكن لم يتواجد هو شخصياً فيها، تدفع للظن بأنه لم يعتمد على مشاهداته فقط، بل مشاهدات آخرين إما كان يستكتبهم أو يسمع منهم ويسجل ملاحظاته بناءً على ما يسمع. لكن الأهم من التفاصيل الكثيرة والمثيرة المبثوثة في الكتاب الضخم هو السياقات والخلاصات العامة التي لا يسمح ضيق المساحة هنا إلا بتسجيل بعضها.
أول هذه السياقات هو ثقل وغلاظة التدخل الأوروبي في شؤون البلاد الخاضعة للحكم العثماني. فهنا نرى القنصل البريطاني وكأنه الحاكم الفعلي للقدس حيث تتجاوز تدخلاته وسياساته مهام حماية الإنكليز، وجزء من المسيحيين، لتصل إلى التأثير المباشر على الباشا التركي في أمور خاصة حتى بأهل القدس الأصليين (مسلمين ومسيحيين). وهذا التدخل جاء بمسوغ حماية «الجالية الإنكليزية في القدس» وهي التي بلغ عدد أفرادها البالغون في منتصف القرن التاسع عشر ثلاثين إنكليزياً (عدا الأطفال) كما يذكر فن نفسه (صفحة 616)، وبهدف زيادة هذا العدد فإن فن يضيف إليهم»... الذين يحملون الجنسيات الإنكليزية والألمانية من السوريين واليهود المتنصرين الذين كانوا يتقنون اللغة الإنكليزية»! وهكذا فإن رعاية شؤون هذه»الجالية الإنكليزية» كان أحد الأهداف الرئيسة التي من الُمفترض أن يتابعها القنصل المُعين. جيمس فن كان القنصل البريطاني الثاني في القدس وقد سبقه في المنصب وليم يونغ الذي عين سنة 1939 لرعاية شؤون جالية بريطانية كانت بالتأكيد أقل عدداً. نعرف طبعاً أن «الوصف الوظيفي» المُعلن لهؤلاء القناصل كان مجرد غطاء هش لمهام سياسية واستخباراتية واستراتيجية أهم بكثير. فقد كانت الدولة العثمانية في أواسط القرن التاسع عشر قد دخلت طور الأفول التدريجي، وهو الذي استنفر شهيات الدول الكبرى وخاصة بريطانيا وروسيا وفرنسا وألمانيا التي تكالبت لوراثة تركة رجل أوروبا المريض.
ثاني هذه السياقات هو التسويغ الديني الأنجليكاني للانحياز لليهود ولفكرة عودتهم إلى «أرض الميعاد» ومماهاة هذا التسويغ مع المشروعات الاستعمارية الإمبراطورية لبريطانيا. فعلى خلفية الضعف العثماني كان التنافس على المشرق وتحديداً مصر وفلسطين وبلاد الشام وقناة السويس في القلب منه يزداد حدة بين فرنسا وبريطانيا وروسيا وألمانيا. وآنذاك رأت بريطانيا بالمرستون أن تعزيز الوجود البريطاني في الشرق، وقلبه فلسطين، يمكن ضمانه عبر توظيف الادعاء المسيحي الصهيوني وجلب اليهود إلى فلسطين، واعتبارهم رعايا الإمبراطورية وممثليها. وهكذا لن تجد الإمبراطورية شريحة أكثر إخلاصاً من اليهود في فلسطين الذين سيكونون بالغي الإخلاص لبريطانيا التي حققت لهم الوعد التوراتي.
السياق الثالث الذي يمكن الإشارة إليه هو إخفاء وإهمال التاريخ المحلي وناسه، وإخلاء فلسطين من أي تاريخ أو حضور غير يهودي، وهو ما أشير إليه أعلاه. وهنا «يبدع» جيمس فن في تهميش وجود عرب فلسطين إلى درجة مُذهلة، إذ بالكاد يذكرهم، وإن ذكرهم ففي سياق تهكمي واحتقاري حيث يكرر عبارات تشير إلى تعصب «الشرقيين» وتخلفهم، ويختزلهم في حمائل وعشائر متقاتلة ومتحاربة على الدوام ويبالغ في وصف تلك العداوات و «الحروب»، ثم عندما يضطر لذكر «ضحايا» تلك الحروب فبالكاد يكونون عدة أفراد. تصوير «تخلف الشرقيين» في فلسطين يخلق مفارقة كبيرة مع «تحضر الأوروبيين» الذين يمثلهم القناصلة، خصوصاً البريطاني، الذي لولاه لأكلت الحرب والخلافات الداخلية كل المدن والقرى المحيطة بالقدس، كما يتفاخر في اكثر من موقع في الكتاب. بيد أن هذا التحضر الذي يتفاخر به القنصل البريطاني يبدو استعلائياً وعنصرياً في مواضع كثيرة، إذ فضلاً عن العنصرية الواضحة ضد العرب والمسلمين وحتى مسيحيي أهل البلاد «المتعصبيين الرافضين للتبشير المسيحي الأوروبي» (صفحات 266 و580)، فإن فن يستخدم تعبيرات عنصرية ضد السود، مثل زنجي، حتى لو كانوا من رعايا الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس. إضافة إلى ذلك فإن فن لا يستطيع التخلص من رجعية مترسخة إزاء المرأة ودورها، فيحرم النساء «اليهوديات البائسات» من العمل في الحقول التي تشرف قنصليته عليها لأن «عملهن لن يكون نافعاً ولا مرغوباً» (صفحة 588)، هذا في الوقت الذي كان قد اضطر فيه للإشارة إلى الفلاحات الفلسطينيات وعملهن الدؤوب في الحقول إلى جانب الرجال. ما تضمنته ألأسطر السابقة هنا لا يمثل عملياً إلا إشارات سريعة لكتاب في غاية الأهمية ولعمل كبير فعلاً يستحق عليه المُترجم ودار النشر كل الإشادة والتقدير.
المصدر : جريدة الحياة اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع