صلاح منتصر
من أولى القضايا الخلافية التى تواجه الثورات عادة، «مشكلة الديمقراطية والحريات». فطبيعة الثورة التشكيك فى الآخرين بوجه عام، والمثقفين بوجه خاص، وأن حكاية الديمقراطية واستشارة آراء الناس مضيعة للإصلاح. وقد جربت ثورة يوليو ٥٢ ذلك مع قانون الإصلاح الزراعى الذى هدف إلى انتزاع الأرض من ملاكها الإقطاعيين وتوزيعها على صغار الفلاحين. وقد قاوم البعض هذا الإجراء على أساس أنه وإن كان يفيد اجتماعيا بزيادة عدد ملاك الأرض، لكنه يضر بالحصيلة الزراعية التى لابد أن تنخفض، فكان أن قررت الثورة تنفيذ الإجراء بصرف النظر عن معارضة الآخرين.. وعلى هذا الطريق اصطدمت الثورة بعدد من الكُتاب، وعلى رأسهم المرحوم أحمد أبوالفتح، الذى دخل فى صدام مع عبدالناصر وقيادات الثورة، بسبب مطالبته لهم بتطبيق الديمقراطية، كما أشرت الأحد الماضى، ولكن فى المقابل كانت المفاجأة عندما استل عميد الصحافة الأستاذ الكبير محمد التابعى قلمه وراح يشن هجوما عنيفا على الديمقراطية ومن يفكرون فيها.
كان من حظى أن بدأت مشوارى الصحفى فى مجلة «آخر ساعة»، عام 1953، فى وسطٍ يضم عددا كبيرا من عمالقة المهنة. ورغم أن التوأم على ومصطفى أمين كانا صاحبى «دار أخبار اليوم» التى اشترت «آخر ساعة» من عميد الصحافة وأميرها محمد التابعى، إلا أن محمد حسنين هيكل، رئيس تحرير «آخر ساعة»، كانت له استقلاليته التامة فى تحديد موضوعات المجلة وما يُنشر، بينما كان أصحاب المجلة يطالعونها مثل أى قارئ. (تولى هيكل رئاسة التحرير قبل شهر من قيام ثورة يوليو 52، وذلك بفضل كفاءته، فلم يكن أحد يعرف فى ذلك الوقت أن هناك ثورة قادمة ستغير وجه الحياة فى مصر).
وفى ذلك الوقت كان الأستاذ الكبير محمد التابعى من أشهر كُتاب المجلة، وله كل أسبوع مقال يحمل عنوان «من أسبوع لأسبوع»، يبعثه من منزله. وكانت له زيارة واحدة لدار «أخبار اليوم» فى الأسبوع، يصعد فيها مباشرة إلى مكتب الأخوين على ومصطفى أمين فى الدور الثانى قبل أن يرتفعا بالمبنى إلى الطابق العاشر. وفى أغسطس 1953 سمعت «سليم زبال»، سكرتير تحرير «آخر ساعة»، يحرك شفتيه والقلم الذى كان يمسك به ليرسم الصفحات وهو يقول: «ضربة جامدة قوى»!! وبعد أيام، ظهر عدد «آخر ساعة» يوم 19 أغسطس يحمل مقالا للتابعى عنوانه «عودة إلى حديث الحزب الواحد»، تعليقا على مقال كتبه مصطفى أمين فى صحيفة «أخبار اليوم»، يقول فيه إن الأدلة كثيرة على فشل نظام الحزب الواحد، وإن هذا النظام أخفق فى البلاد التى أخذت به، ومنها تركيا وإيطاليا وألمانيا.
ويقول الأستاذ التابعى ردا على مصطفى أمين إن هذه مغالطة لا تقبلها ذمة التاريخ، فقد حقق نظام الحزب الواحد لكل من إيطاليا وتركيا وألمانيا جميع الأغراض التى استهدفها موسولينى وأتاتورك وهتلر. وهذه الأغراض تتلخص فى إعادة بناء الدولة من جديد ودعم قوى الشعب وتوجيهها نحو التعمير والتجديد والإنشاء والإصلاح وإزالة أسباب الضعف والفساد فى كيان الأمة.
ومضى الأستاذ التابعى يتحدث عن أعمال موسولينى الذى شهدت إيطاليا فى عهده حركة تعمير لا تُنكر، ووثبة صناعية كبرى، وارتفاع مستوى المعيشة، ونهوض إيطاليا فى كل الميادين عسكريا واقتصاديا وتجاريا حتى ارتفعت يومئذ إلى مصاف الدول العظمى. وأعظم من هذا وأروع- قال التابعى- كانت وثبة ألمانيا الكبرى فى عهد هتلر ونظام الحزب الواحد. فعلى قصر عهده استطاع فى ست سنوات أن يوحد الشعب الألمانى ويجمع كلمته وقواه، وأن يحقق لألمانيا المعجزات، ويجعل منها دولة عظمى فى دنيا الصناعة، ودولة عظمى فى دنيا التجارة والاقتصاد والمال.. أما لماذا انهار حكم هتلر وحكم موسولينى- قال التابعى- فهذه مسألة أخرى أو حديث آخر. لقد انهار النظامان، لا بسبب فساد الحكم أو سوء النظام أو ثورة الشعب، وإنما بسبب تأليب قوى لا طاقة له بدفعها، أى بسبب الحرب. بسبب ضربات تلقاها نظام الحزب الواحد من الخارج لا من الداخل.. ضربات من أعداء البلاد لا من أبناء البلاد. وقد يقول مخالفىّ فى الرأى إنه لو كان فى إيطاليا أو ألمانيا أحزاب عدة، لكانت هذه الأحزاب قد غلّت يدى هتلر ومنعته من دخول الحرب. وهذا رأى لا يقوم على صحته أى دليل. فقد كانت فى فرنسا أحزاب عديدة، وكانت فى بريطانيا أحزابها الثلاثة، ومع ذلك فإن هذه الأحزاب أو نظام تعدد الأحزاب لم يمنع فرنسا أو بريطانيا من دخول الحرب وضد رغبة غالبية الشعب.
****
هكذا هاجم التابعى تعدد الأحزاب، مدافعا عن الحزب الواحد، وهو ما كانت ثورة يوليو قد اتجهت إليه بإلغاء الأحزاب وضم فئات الشعب بأفكارها المختلفة فى تنظيم واحد بدأ تحت اسم «هيئة التحرير»، وتغير بعد ذلك إلى «الاتحاد القومى» ثم «الاتحاد الاشتراكى». لكن الأستاذ التابعى لم يهنأ على ما أبداه من رأى، ففى الأسبوع التالى تصدى له فى «آخر ساعة» واحد من أصحاب المدفعية الثقيلة، راعى أنه تلميذ التابعى، فجاء رده تحت عنوان «لا يا أستاذ تابعى..».