بقلم : صلاح منتصر
لم يشهد لبنان شخصًا أحبه وأخلص له مثل رفيق الحريرى، الذى بدأ مواطنًا عاديًا، ورث الفقر عن أسرته على عكس مختلف السياسيين اللبنانيين، فهاجر إلى السعودية عام 1965 لعدم قدرته على دفع نفقات الدراسة، وعمل مدرسًا للرياضيات فى مدرسة سعودية فى جدة، ثم محاسبًا فى شركة هندسية، ثم صاحب شركة مقاولات صغيرة شهدت نموا كبيرا حتى أصبحت من أكبر شركات المقاولات فى العالم العربى، واتسع نشاطه ليشمل شبكة من البنوك والشركات. وعاد الحريرى إلى لبنان حاملًا الجنسيتين السعودية واللبنانية ليقوم بأهم أدوار حياته فى إعادة تعمير لبنان واستعادة مجده.
ترأس الحريرى الوزارة مرتين: الأولى من 1992 حتى 1998، ولتحسين الاقتصاد قام بتخفيض الضرائب على الدخل إلى 10% فقط، واقترض مليارات الدولارات لإعادة تأهيل البنية التحتية والمرافق اللبنانية، وتركزت خطته التى عرفت باسم «هورايزون 2000» على إعادة بناء بيروت على حساب بقية مناطق لبنان. وخلال هذه الفترة ارتفعت نسبة النمو فى لبنان إلى 8% فى عام 1994، وانخفض التضخم من 131% إلى 29%، واستقرت أسعار صرف الليرة اللبنانية.
وفى الفترة من 2000 حتى 2004 تولى رئاسة وزارته الثانية التى استقال منها بسبب عدم قبوله بقاء القوات السورية فى لبنان. وفى يوم 14 فبراير 2005 بينما يقود سيارته بنفسه انفجر ما يعادل طنين من المتفجرات أثناء مروره بجوار فندق سانت جورج فى بيروت. وأثار اغتياله عاصفة من الغضب ضد السوريين، شهدت تظاهرات شعبية ومدنية طالبت بضرورة إنهاء النفوذ السورى داخل الدولة اللبنانية. وكانت القوة السورية داخل لبنان تقدر بحوالى 14000 جندى، بالإضافة لعناصر استخباراتية أخرى اضطرت للانسحاب بعد 30 سنة من وجودها فى لبنان. لكن لم يستطع أى تحقيق محلى كشف الذى قام بعملية الاغتيال، فكان أن تم التوصل بقرار من الأمم المتحدة إلى تشكيل محكمة دولية اتهم أمامها أربعة أشخاص ينتمون إلى حزب الله بعملية الاغتيال، لكن المحكمة أعلنت الشهر الماضى- بعد 15 سنة وصرفها نفقات بلغت مليار دولار، دفع لبنان منها 600 مليون دولار- براءة ثلاثة من الأربعة واتهام شخص واحد اسمه سالم جميل عياش بأنه ارتكب عملية الاغتيال، دون تحديد مَن كان وراءه وموّله وأمره بتنفيذ الجريمة.. وفى الوقت نفسه، برأت المحكمة «قيادة» حزب الله و«الحكومة» السورية من أى علاقة بالجريمة.
وقبل أيام من إعلان الحكم، شهدت بيروت يوم 4 أغسطس انفجارًا، سُمع صوته فى قبرص، وبدا شبيهًا بانفجار القنبلتين النوويتين اللتين ألقيتا على هيروشيما ونجازاكى فى أغسطس 1945. وتبين أن سفينة تم تحميلها عام 2015 بنترات الأمونيوم شديد الانفجار فى جورجيا لتسليمها لشركة لصناعة المتفجرات فى موزمبيق، وخلال رحلة السفينة تلقى قائدها- كما ذكر- تعليمات بالتوقف فى بيروت، حيث تم إفراغ حمولتها، وبعد ذلك تم بطريقة غامضة إغراقها وهى راسية فى ميناء بيروت، فى الوقت الذى تمت فيه تصفية شركة «روستا فى آزوت» التى أنتجت الأمونيوم الذى حملته السفينة المريبة. وهكذا أصبحت شحنة الأمونيا التى دخلت مخازن ميناء بيروت مجهولة الملكية بلا مصنع موجود أنتجها ولا سفينة معروفة حملتها، ورغم خطورة الشحنة فى مكانها الذى استمر خمس سنوات فى ميناء بيروت، إلا أن يدًا لم تحاول نقلها من مكانها، إلى أن حدث انفجارها الذى قتل وأصاب الآلاف، ودمر مئات المبانى، وأضاف إلى أزمة لبنان الاقتصادية التى يعانيها وراح يستجدى بسببها مساعدة صندوق النقد.. المزيد من المعاناة والمشاكل.. وبدا كما لو أن بيروت دخلت حربًا جديدة تستدعى معجزة مثل رفيق الحريرى لإعادة إنقاذه، ولكن لا رفيق الحريرى يمكن استعادته، ولا أحد هناك يمكن التعلق به.
ومن حرب أهلية، إلى اقتحام سورى، إلى غزو إسرائيلى، إلى حرب أهلية ثانية، إلى أخيرًا انفجار مريب فى وقت بالغ الصعوبة يلعق فيه لبنان جراحه ويبدو كسفينة تائهة فى بحر الظلمات لا يعرف من ينقذه منه!!.