صلاح منتصر
ترددت فى الفترة الاخيرة فكرة فتح قصر عابدين للزيارة، أولا ليرى الشعب والزوار الاجانب عظمة هذا القصر الذى بناه الخديو إسماعيل، وثانيا لتحقيق موارد من تذاكر الزيارة تسهم فى المبالغ المطلوبة لصيانة القصر والمحافظة عليه. ولعلى بهذه المناسبة أقرر دور زكريا عزمى رئيس ديوان مبارك، فى الضوابط والقيود التى طبقها بحزم على جميع القصور الرئاسية فى عابدين والقبة وراس التين والمنتزه ومحمد على وغيرها، مما جعلها اليوم موضع فخرنا.
لم تكن هذه على كل حال أول مرة تتردد فيها فكرة فتح قصر عابدين للشعب، ففى مارس ١٩٥٣ طرحت هذه الفكرة على أساس أن يكون ذلك من مظاهر الاحتفال بالعيد الأول لثورة يوليو ٥٢ فيفتح قصر عابدين للشعب، باعتباره رمز الحكم الملكى الفاسد كما كان يوصف. كنت وقتها فى بداية عملى فى مجلة آخر ساعة تحت رئاسة الاستاذ محمد حسنين هيكل، وقد وافق على اقتراح تحقيق صحفى على الفور، وهو أن أصحب فلاحا وزوجته باعتبار أنهما جذور الشعب وأساسه لزيارة قصر عابدين، وبذلك افتتح الفكرة بتطبيق عملى ولكن مع اثنين من صلب الشعب.
تمكنت من الحصول على الترخيص اللازم من إدارة الشئون العامة للقوات المسلحة التى كانت تسيطر على مختلف الموضوعات الخاصة بالثورة والجيش، وذهبت إلى حيث مدينة المهندسين الآن وكانت قرية فلاحين تدعى «الحوتية» تتولى تموين القاهرة بالجزء الاكبر من احتياجاتها من الخضر لتكون فى سوق الخضار القديم وسط العاصمة فجر كل يوم لتنتهى فى مساء اليوم فى بطون القاهريين. وعن طريق صديق استطعت التوصل إلى فلاح نموذجى اسمه محمد سليم عبد الله ومعه زوجته وأيضا طفلهما الصغير الذى يبلغ الثالثة واسمه محمد.
وفى صباح يوم الخميس ٩ إبريل ١٩٥٣ دلف من باب القصر الملكى الوفد الذى يضم سليم وزوجته وطفلهما الصغير والمصور الراحل حسن دياب وأنا. وكما ذكر لى المسؤولون عن القصر فقد كنت أول صحفى يدخل هذا القصر الذى يضم ٥٠٠ قاعة وغرفة، وأشهد أننى سرت فى ممر طويل تتدلى على جانبيه من السقف إلى الارض مالا يقل عن ثلاثين تحفة جوبلان كانت تغطى جانبى الممر، وفيما بعد لا أذكر أنه ظهر لهذه التحف أثر.
كان اهتمامى فى الزيارة السؤال عن كرسى العرش الذى كان يجلس عليه الملك وزوجته الملكة لاستقبال كبار الضيوف، وبالفعل سجل حسن دياب صورة نشرت على مساحة صفحة كاملة فى آخر ساعة لسليم وزوجته وهما جالسان على كرسيى العرش وبينهما طفلهما الصغير مما جعل الاستاذ هيكل يضع عنوانا للتحقيق «الشعب يجلس على العرش».
كانت الزيارة عبارة عن انبهار رجل قادم من أعماق الريف لم يعرف الصالون والسجاد والانتيكات مع قصر تملأ التحف كل ركن فيه. وكانت هناك واقعتان لا أنساهما، واقعة قيام سليم بخلع حذاء كبير كان أقرب إلى «البووت» كان يلبسه وقد ظل ممسكا بفردتى حذائه، والواقعة الثانية كانت عندما ألحت الحاجة على الطفل محمد قرب حمام الملك. وقد دخل الحمام مع أمه، ولكن الطفل لم يتمكن من إتمام حاجته عندما أجلسته أمه مكان الملك. وأمام إلحاح الحاجة «عملها محمد على الارض» كما تعود تاركا للموظفين إزالة مابقى من آثار!
لم يفتح القصر للزيارة كما قيل وإنما جرت إهانته. ففى نوبة جهل بقيمة مافى القصور وأنها وإن كانت لملك، الا أن المالك الحقيقى لها هو الشعب لتبقى مكونا من حضارته وتاريخه. إلا أنه بكل أسف ظهرت فكرة التخلص من هذه التركة التى تحمل رائحة الملك الفاسد، فتم تنظيم أكثر من مزاد عرضت وبيعت فيه مقتنيات بالغة الروعة بأبخس الاثمان ذهبت إلى الاجانب الذين هرولوا إلى مصر لشرائها، بينما خاف المصريون دخول المزاد حتى لا يتهموا بزنهم يقتنون الفساد! ولم يقتصر الامر على ذلك فقد كان غريبا تخصيص الحجرات التى فى مدخل قصر عابدين ناحية الباب الذى إلى اليمين لتكون مقرا لمركز الصحة الذى يتولى تطعيم المسافرين إلى الخارج، وقد قمت شخصيا بإجراء هذا التطعيم عام ١٩٥٩ قبل أول مرة طرت فيها إلى الخارج.