صلاح منتصر
كنا فى نهاية شهر أغسطس 1953 وكان من عادة الأستاذ محمد التابعى أن يمضيه مع بضعة أيام من شهر سبتمبر فى رأس البر، حيث كانت له عشة فى شارع 14، أتذكر أننى فى صيف عام 1951 قبل أن أعمل فى الصحافة - وكنت أنا الآخر أمضى ذلك الصيف فى رأس البر- واشتريت «أوتوجراف» صغيراً ورحت أحمله معى كلما مررت على عشة الأستاذ التابعى، إلى أن شاهدته يوماً يقف فى بلكونة العشة، وهى فى الوقت نفسه بلكونة وأنتريه وسورها يرتفع مترين عن الأرض، وقد مددت له يدى بالأوتوجراف، وقلما كنت أحمله، فلم يكسفنى، وفى صمت أمسك بالأوتوجراف وكتب فى صفحته «أتمنى لك النجاح والتوفيق». جملة كتبها بالتأكيد لعشرات بل مئات، ولكن بالنسبة لى فقد رحت أقرأها مرات وأدير صفحة الأوتوجراف يميناً ويساراً ولا أعرف أين ذهب، فلم يكتب لى فيه أحد غيره، وقد كانت جملة مبروكة، فبعد حوالى سنة كنت أبدأ مشوارى فى أخبار اليوم.
أثار مقال الأستاذ مصطفى أمين رداً على الأستاذ محمد التابعى إعجابنا، فقد كانت للأستاذ مصطفى أمين طريقة فريدة فى استخدام المترادفات والمتناقضات، ولعله أبرع من وظفها. وقد تصورنا أن الأستاذ التابعى سيغلق الملف ولا يرد، خاصة أنه كان فى رأس البر، ولكننا فوجئنا به يبعث مقالاً طويلاً ضعف المساحة المعتادة يرد فيها وبقسوة على تلميذه بادئاً بالسخرية منه قائلاً: لولا أن المقال يحمل على صدره «بقلم مصطفى أمين»، ولولا أن فى المقال بعض نكات وشيئا من السخرية التى أعرفها عن عزيزنا مصطفى، لولا هذا لشككت كثيراً فى أن الزميل الصديق هو صاحب المقال. ذلك لأننى أعرف عن الأستاذ مصطفى أمين أنه يكتب فى تسلسل منطقى محبوك، وأنه يواجه كل سؤال وأى سؤال بجواب صريح. ومقاله جاء خالياً من المنطق المحبوك ومن الجواب الصريح، بل لقد تورط الصديق فى مغالطات عديدة.. لقد قلت إن نظام الحزب الواحد لم يفشل فى أى بلد من البلدان التى قام فيها. فهو لم يفشل فى تركيا أو ألمانيا أو إيطاليا بل نجح فيها غاية النجاح، ولكنه سقط أو عدل عنه فى تركيا بالرضا والاتفاق، وبعد أن حقق غايته واستنفد أغراضه. وسقط فى إيطاليا وألمانيا تحت شدة الضربات التى انهالت عليهما من الخارج، أى من أعداء البلاد. ولم يرد الزميل الذكى على هذه الحقائق المحرجة وفضل أن يلوذ بالصمت عن لا ونعم.
ولقد كتبت - أضاف الأستاذ التابعى- عن حقائق يشهد على صحتها التاريخ القريب، والأستاذ مصطفى يثير مساوئ مزعومة لم يقطع بصحتها أحد، بل وعلى فرض صحتها وصدقها فإنها أعراض لا ينجو منها أى نام حازم جديد يطلب الحياة والاستقرار. وما قيمة حياة شخص أو بضعة عشر شخصاً أعدمهم موسولينى أو هتلر إزاء الوثبة العظمى التى وثبها الشعبان؟ هل يؤخذ على نظام الحزب الواحد الذى جعل من ألمانيا وفى ستة أعوام فقط أعظم قوة عسكرية فى العالم ونشر تجارتها فى العالمين، ورفع نقدها ودعم صناعتها، إن بضعة عشر شخصاً أعدموا أو بضع مئات زج بهم فى السجون؟ إن حياة الشعوب وحريتها وسلامتها قبل حرية وسلامة وحياة الأفراد.. ثم لماذا يقصر الأستاذ مصطفى أمين حديثه على الرصاص والقتلى ولا يتحدث عن الإصلاحات والنهضات والتعمير والمنشآت.. إننى أسأل ذمة الصديق العزيز الذى أعرف نزاهته وأمانته، ولا أسأل ذمة الصحفى الذى يريد أن يكسب معركته بكل سلاح، أليس الصحيح الثابت أن نظام تعدد الأحزاب قد رمى مصر بكل العلل والأمراض؟ لقد جربنا نظام تعدد الأحزاب ثلاثين عاماً فلم نصب منه سوى المصائب. تدهورت الأخلاق وفشت الرشوة وسادنا وحكمنا اللصوص والفجرة المرتشون، وكسدت تجارتنا وهبطت قيمة نقدنا وكدنا نشرف على الإفلاس، وأصبحت سمعتنا سبة، ومصريتنا سخرية ونكتة فى فم العالمين (ملاحظة: لا تنس أن الأستاذ التابعى يتحدث فى عام 1953 عن الثلاثين سنة التى مضت منذ إعلان دستور مصر عام 1923 وهى السنوات التى كانت بالمقارنة تمثل غاية المنى لملايين المصريين بعد ذلك).
ومن ذلك يقول الأستاذ التابعى: ثلاثون عاما ألا تكفى لكى تقنع كل عنيد بأن النظام قد فشل وأن من الخير أن نعدل عنه إلى نظام الحزب الواحد؟ ولعشر سنوات نبنى فيها ما تهدم ونقوم فيها ما اعوج؟ ولكن طائفة منا- وليس فيها إلا كل ذكى ووطنى مخلص أمين- تأبى أن تحول بصرها عما فى الكتب من نظريات ذات لمعان وبريق.. وعشر سنوات على الأقل قد لا تكفى، نربى فيها كما قلت فى مقالى السابق جيلاً ينظر إلى الحكم على أنه وسيلة لخدمة البلد لا على أنه غاية أو وسيلة للثراء الحرام وتحقيق المطامع والشهوات والتنكيل بالخصوم.
ولم يتوقف الأستاذ التابعى عند هذا الحد بل مضى يكيل لمنافسه اللكمات!