بقلم : كريمة كمال
سيطرت على ذهنى فى ذلك اليوم كلمات الرائع صلاح عبدالصبور «كل هذه المحن الصماء فى نصف نهار». فى بداية النهار، جئت لأحصل على اللقاح فى أحد مراكز مصر الجديدة.. رغم أننا فى بداية النهار والمركز يفتح أبوابه، إلا أن المكان مزدحم عن آخره.. المكان عبارة عن شقة صغيرة، وتزاحم الناس للدخول لتسليم البطاقات والاستمارات.. المشكلة أن معظم هؤلاء المتزاحمين من كبار السن، بعضهم يستند إلى عصا، والبعض الآخر يستند إلى مرافق.. وفى الداخل وأمام الموظف المسؤول عن تسلم البطاقات والاستمارات كانت الأجساد تتلاحم وتختلط حتى قال أحدهم «إحنا حناخد اللقاح ولا حناخد الكورونا».
لم تكن مجرد مزحة بل كانت تعبيرا عن تخوف حقيقى.. فالبشر تختلط أذرعهم بوجوه غيرهم بأرجل البعض، بينما الأجساد تصطدم بقوة.. كل ذلك لتسليم الأوراق والحصول على رقم وعشرات الأسئلة من المتزاحمين للموظف المسؤول، بينما هو لا يرد.. وفى النهاية نكتشف أنه يهمهم مجرد همهمات فاكتشفنا جميعا أن الموظف أخرس ولا يمكن أن يجيب عن كل هذه التساؤلات التى انهمرت عليه.. الموظف المسؤول عن التعامل مع الجمهور أخرس لا يستطيع الكلام ولا يملك الرد.
لا أعرف كيف خرجنا مرة أخرى إلى خارج المركز لنجلس على قاعدة حجرية فى جانب المكان، لكننى بعد فترة ليست بالقليلة شعرت بالبرد الشديد، فقمنا للبحث عن مكان فى الخارج به قدر من دفء الشمس.. سرنا قليلا لنجد حديقة مغلقة بباب من الحديد، دفعناه ودخلنا، كنا اثنين فقط، وبحثنا عن أكثر بقعة تخترقها الشمس واستسلمنا لدفئها الذى يتسلل إليك فيخدر جسدك كله، وجلسنا قرب الساعة عندما فُتح باب الحديقة ليدخل رجل يجر خرطوما طويلا، وما إن رآنا حتى اقترب منا ليقول لنا إنه ممنوع دخول الحديقة، فسألته أليست حديقة عامة؟ أجاب بالإيجاب، لكنه أردف أنه ممنوع الدخول والجلوس فيها، وعلمنا منه أن هناك حفلا من أجل يوم اليتيم سوف يقام فيها فى المساء.. فقلنا له اعتبرنا من الأيتام نحن نشعر بالبرد ونبحث عن الدفء، فرّق قلبه وقال إذا ما جاء أحد وسألكم أخبروه انكم تبع الحفل.
وذهب ليسقى الزرع بينما أكملنا جلوسنا فى الحديقة العامة الممنوعة عن العامة... وعندما عدنا إلى مركز اللقاح كان الازدحام قد ازداد بشدة، وعندما سألنا عن الرقم الذى تم الوصول له، تبينّا أن ثمانية فقط قد تلقوا اللقاح، والسبب أن «السيستم وقع»، فقررنا العودة إلى المنزل ثم العودة بعد الظهر.. يومان كاملان ما بين الذهاب والعودة حتى تلقينا اللقاح فى اليوم الثانى فى الثامنة مساء بعد أن تشاجرنا وصرخنا من عذاب الانتظار يومين كاملين، وبعد أن اكتشفنا أن الموظف نسى أن يضع لنا رقمنا فأصبحنا من المنسيين.
بشعور شديد بالإرهاق عدنا إلى المنزل حيث للعجب كان يتم الإعلان عن قرارات رئيس الوزراء من أجل منع انتشار كورونا والتى كانت تنص على منع التجمعات وفى نفس الوقت تتوارد الأخبار عن مهرجان الأقصر للسينما والاستعداد لإقامة غيره من المهرجانات ما بين أسوان وشرم الشيخ، بل تتوارد دعوات من وزارة الثقافة لعمل إفطار لقيادات الوزارة فى أيام رمضان.. فهل هذه حكومة واحدة؟ وهل تحكمها استراتيجية واحدة؟وهل يسيرها عقل واحد؟ وهل يتم حقا التصدى للوباء؟، وهل نحن مدركون حقا أننا أمام موجة ثالثة قد تكون أكثر انتشارا؟ ولو كنا ندرك هذا حقا فلماذا نتصرف وكأنما لا يوجد وباء ولا خطورة ونقيم كل هذه الفعاليات؟ هل تحكمنا فقط الرغبة فى القول إننا لا نعانى من الكورونا لكى تتدفق السياحة؟.. هذه الرغبة ليست أهم من أرواح البشر التى تذهب نتيجة لهذه الرغبة.. فعلًا «كل هذه المحن الصماء فى نصف نهار».