بقلم - سحر الجعارة
أحياناً تكون الجنسية اختياراً، وهو اختار أن يكون «مصرياً»، أن تحتل ملامح مصر خياله، وتتحكم أوجاعها فى أدواته الإبداعية.. فلا ترى «الكاميرا» بعيونه بل تتحرك مع «آهة» تختبئ خلف بيوتها العتيقة.. ولا تقرأ عيونه إلا الهموم المحفورة على جباه البشر.
اعتاد أن يكون قلبه مثل مقهى شعبى، يستقبل الوافدين على تنوعهم، يمسح عرقهم ويستمع لحكاياتهم المغزولة بالشجن والحلم.. أن يستبدل حلمه الخاص بأحلام البسطاء.. أن يستعير لغتهم ومفردات حياتهم.. أن يتوحد مع الزحام والوجوه المختلفة، والحوارى، والبيوت المتهالكة، يسكن فوق الأسطح ليرى كيف يدير الحاكم دولته!وفوق سطح منزل متهالك شاهدنا -معه- كيف تناوبت «هند» أمومتها مع «كاميليا»، بكينا «عرق النساء» المستباح ببلطجة بعض الذكور.. ضحكنا من فرط سذاجة «هند وكامليا» وهما تفرطان فى الثروة المفاجئة من أجل لحظة تعانقان فيها موج البحر الهادر!إنه صاحب الدراجة البخارية الفتية التى نقلتنا من «سوبر ماركت» أقرب ما يكون لصورة الوطن، تباع فيه المشاعر والضمائر والبشر، إلى «وطن» يسطر تاريخه فى «أيام السادات».. ويسجل عبقرية النجم «أحمد زكى»!
إنه المخرج الراحل «محمد خان» الوريث الشرعى لواقعية المخرج «صلاح أبوسيف» فى السينما، وشريك الراحل «عاطف الطيب» فى رائعته «سواق الأوتوبيس» والذى كتب له السيناريو عام 1982.. لتكون كلمة النهاية فيه لأول مرة على شاشة السينما العربية بجملة واحدة رددها الراحل «نور الشريف» فى وجه من اغتصبوا ثروات مصر: «يا ولاد...»!!
لم يتقيد «خان» بربطة عنق فى حياته، كان أميل إلى البساطة، يحتضن الناس جميعاً فى جلساته فتشعر معه بالألفة والسكينة.. تماماً مثل أفلامه التى تجد نفسك بالقطع فى مشهد أو جملة منها، أو تشعر أنه كان يصرخ نيابة عنك فى رؤيته السياسية.فى «زوجة رجل مهم» ستجد «لغة شاعرية خاصة»، لغة سجّلها بصوت «عبدالحليم حافظ» لتكون أرشيفك الخاص وأنت تلملم فتافيت قصص الحب لتكتمل.. يكاد يكون هذا الفيلم هو الفيلم الوحيد الذى يصلح لكل زمان وأى مكان.. وأنت ترى صورة مجسمة للصدام المتكرر بين «السلطة والحب».. صورة فجّة لسقوط قناع السلطة عن وجه قبيح يكتسب أهميته من «المنصب والسلاح»، وجه يستغل أقرب الناس إليه ويقتل أروع ما فيه!
فى سينما «محمد خان» فتِّش دائماً على الإنسان، ربما تجده مهزوماً لكنه يصر على المقاومة، يعيش فى ضنك، مثل «مستر كاراتيه»، لكنه يرقص ويغنى، ستجده عاشقاً يحلم بلحظة حرية ليختار معشوقته فى «موعد على العشاء».. وستجد أنماط الأسر تتكرر لكنه يتمرد.. ستجد الإنسان بصدقه ولوعه.. بحيرته ويقينه.. بشوقه الجارف إلى «إيمان ما» وهوسه بالسلطة والمال!على شاشة «محمد خان» ستجد بعضاً من نفسك.. من مشاعرك وخصالك: (كثير من القيم النبيلة وقليل من الخسة)، ستجد أهلك ورفاقك وجيرانك.. من ناصروك ومن خذلوك.. صور تتتابع على شريط سينما لا تشبهك بل تتطابق معك فى كثير من الأحيان.. هو أنت بدون رتوش أو مساحيق تجميل.أحد المشاهد العبقرية لـ«محمد خان» فى فيلم «موعد على العشاء» حين كان «أحمد زكى» يحرر خصلات شعر «سعاد حسنى» من (الشينيوه).. عليك إذاً أن تختار أن تفك قيودك بنفسك أو تختار من يكسرها.رحل «محمد خان» وترك لنا «ذاكرة حية» ممهورة بتوقيعه، تنطق بالصوت والصورة، شاهدة على الوطن بكل ما فيه من قبح وجماليات.. لنظل ننظر دائماً فى مرآة «خان» ونقول إنه كان مصرياً للنخاع بأفلامه قبل أن تمنحه مصر جنسيتها!