لا أحد يشعر بمعاناه «المريض» إلا هو وحده، مهما بلغت درجة التعاطف والاهتمام، وحده يتألم في صمت، ينهزم وهو يتابع ـ كل يوم- قطعة من جسده تموت.. قد يحاول أن يرتفع فوق مستوى ضعفه، أن يحول انكساره إلى «حالة عطاء» يوزع خلالها الابتسامة التي صادرها المرض على شفاه الأطفال الفقراء والمحرومين.. ويتحول «المريض» إلى حضن كبير يستوعب عذابات البشر!.
هذا ما فعلته النجمة «أنجيلينا جولى»، حين اكتشفت أنها تحمل الجين المتحور (بي.آر.سي.إيه1)، الذي يكشف عن مخاطر عالية للإصابة بالسرطان هو ما دفعها لاتخاذ القرار الصعب.. فحذفت من أبجدية أنوثتها النهدين والمبيضين، وقررت أن تمنح الإنسانية ما تبقى من روحها المقاتلة.
قررت أن تكون «إنسانة» قبل أن تكون «أنثى»، أن تكرس ثروتها ونجوميتها وأنفاسها المتبقية على الدنيا للمحرومين والمقهورين في كل مكان.. أن تغلف قلبها بأوراق الورد وتوزعه على ضحايا الحروب والمجاعات والإيدز.. لتصبح «أيقونة للإنسانية».
ما أبشع أن تمرض «تحت الأضواء».. أن ترصد الكاميرات والصحف لحظات انكسارك، وتعد عليك آخر أنفاسك.. ما أتعس «الفنان» حين تتحول الأضواء إلى نظرات شفقة أو عبارات «رثاء» عادة تأتى متأخرة!.
في عام 2016 توقفت الفنانة الفلسطينية الراحلة «ريم بنا» عن الغناء، وهى إلى كانت شغوفة بالموسيقى منذ نعومة أظافرها، وبعدما تخرجت من المدرسة الثانوية، قررت احتراف الغناء فسافرت إلى موسكو للدراسة في المعهد العالي للموسيقى.. لقد قهرت «سرطان الثدى» الذي اكتشفته عام 2009.. لكن المرض عاد وهاجمها فأعلنت توقفها عن الغناء عام 2016، بعد إصابة أوتارها الصوتية.. وكتبت يومها تقول: (إن صوتي الذي كنتم تعرفونه توقف الآن عن الغناء الآن أحبتي وربما سيكون ذلك إلى الأبد).
كانت «ريم» صلبة مثل شجر الزيتون الذي روته بمسقط رأسها بمدينة «الناصرة» الفلسطينية، مؤمنه بقضيتها وبقدرة «صوتها» على توصيل رساله للعالم أجمع أو «صرخة» في وجه الظالمين تؤكد الحق الفلسطينى.. فقد تربت في أحضان والدتها الشاعرة المعروفة «زهيرة صباغ»، ورائدة الحركة النسوية في فلسطين.
«ريم» التي اشتهرت بأغانيها الوطنية، ركزت اهتمامها على تقديم التراث الفلسطيني للعالم، وعرفت بمساهمتها الكبيرة في الحفاظ على الكثير من الأغاني التراثية ولا سيما أغاني الأطفال.. وشاركت في العديد من المهرجانات المحلية والعربية والدولية، فالأغنية -هنا- أقوى من الرصاصة.. والتراث الفلسطينى ينطق بصوت «أطفال الحجارة».. لكنها صمتت مكرهة ـ لقد خنق السرطان أحبالها الصوتية!.
قد يكون «السرطان» أو «الإيدز» أو فيروسات الكبد أشهر الأمراض التي ينتفض العالم لمواجهتها، ويدشن الحملات لمواجهة تلك الأمراض بالتوعية والتشخيص والعلاج.. لكن هناك من يموتون في صمت، محرومون حتى من «الاستغاثة» مثل مرضى تليف الرئة الذين يحرمهم فقهاء مصر من نقل الرئة من المتوفى!.
لا أحسب أن «ريم» ماتت بالسرطان، لقد ماتت قهرا وكمدا على بلدها الضائع.. فقد ظلت متمسكة بالأمل لآخر لحظة.. وقبل أسبوعين من وفاتها، كتبت لأولادها على حسابها في موقع «فيسبوك» رسالة مؤثرة، حاولت خلالها تخفيف وطأة هذه المعاناة القاسية عليهم، فاخترعت سيناريو خياليا وكتبت: (لا تخافوا.. هذا الجسد كقميص رثّ.. لا يدوم ..حين أخلعه .. سأهرب خلسة من بين الورد المسجّى في الصندوق.. وأترك الجنازة «وخراريف العزاء» عن الطبخ وأوجاع المفاصل والزكام ... مراقبة الأخريات الداخلات.. والروائح المحتقنة.. سأجري كغزالة إلى بيتي، سأرتب البيت وأشعل الشموع، وأنتظر عودتكم في الشرفة كالعادة، أجلس مع فنجان الميرمية، أرقب مرج ابن عامر، وأقول.. «هذه الحياة جميلة.. والموت كالتاريخ.. فصل مزيّف»).
لكن الحياه ليست جميلة بالنسبة لأى مريض.. فالمرض هو «الفصل المزيف» في العمر، فصل الخريف المبكر الذي تتساقط فيه وظائف الجسد، وتترك «العقل» يتأمل الواقع المرعب، والقلب يتألم من أجل فراق الأحباء.. خصوصا «الأطفال».
ورحلت «ريم» تاركة خلفها ألقابا كثيرة (سفيرة السلام في إيطاليا عام 1994 وشخصية العام من وزارة الثقافة التونسية عام 1997).. وقضية عالقة بين (السلطة والفصائل.. بين المفاوضات والمقاومة المسلحة)!. تركت تراثا لا يزال أطفال فلسطين يحفظونه عن ظهر قلب ويتغنون به كما علمتهم.. وتركت فراخها الصغير دون «حضن آمن».. يعيشون في هلع ما بين همجية الاحتلال وفقدان «الأم-السند»!.
أليس غريبا أن البعض يولد ليرث عرشا ملكيا.. والبعض الآخر يولد ليرث أمراضا سكنت بجينات الأبوين منها «السرطان»؟!.
وداعا «ريم بنا».. لم يعد لدينا إلا «قميص رث» يسترنا حتى يذوب.. وأغنية بصوتك نرددها من أجل فلسطين.. وشمعة نوقدها من أجلك.
نقًلا عن المصري اليوم