على مدخل العمارة التى أسكن بها إعلان يقول: (بادر بحجز وحدتك فى العاصمة الإدارية الجديدة بمقدم حجز 350 ألف جنيه والأقساط على عشر سنوات.. الأولوية بأسبقية الحجز).. وكلما رأيت الإعلان أفكر أولاً فى مصير ملايين الموظفين الذين سينقلون حياتهم إلى العاصمة الجديدة، بعد نقل دواوين الوزارات إلى مقارها الجديدة بنهاية هذا العام، أو منتصف العام المقبل.
هل ستوفر الحكومة لهؤلاء الموظفين وحدات أرخص وتقدم لهم تسهيلات حقيقية فى السداد، لأنهم لا يملكون بالقطع الثمن المرتفع لهذه الوحدات؟.. أم سيقضون نصف عمرهم فى الطريق من مقار سكنهم إلى مقار أعمالهم؟.. وبذلك يضيع الهدف الأساسى من إنشاء العاصمة الإدارية الجديدة، وهو تقليل الكثافة السكانية فى العاصمة، والانتقال إلى عاصمة حضارية لتقديم خدمات أكثر تكاملاً ورقياً فى المقر الإدارى الجديد للحكومة!!.
وإذا كان قدر هؤلاء الموظفين هو الانتقال يومياً من وإلى العاصمة الجديدة، فهل ستوفر لهم الحكومة وسائل مواصلات «آدمية»، بأسعار مناسبة؟ أم سيصبح الموظف الذى يتراوح راتبه ما بين ألف إلى ثلاثة آلاف مضطراً لإنفاق ثلث راتبه على المواصلات.. والوصول إلى مقر عمله منهكاً.. علاوة على استهلاك «الوقود» والضغط على الطرق بالزحام والعذاب اليومى؟!.
الأسعار المعلنة للوحدات السكنية فى العاصمة الإدارية الجديدة مخيفة، فمتوسط الأسعار وصل رسمياً إلى 11 ألف جنيه للمتر للشقق المطروحة من الحكومة، فما بالك بأسعار الشركات الخاصة، وفى الكومباوندز المغلقة؟.. وإذا كان المقصود هو انتقاء «شريحة منتقاة» من البشر لتسكن فى أهم مشروع قومى تتبناه الدولة، كما حدث فى القطامية وغيرها من الكومباوندز، فلمَ تنتقل دواوين الحكومة إلى هناك بما يصاحبها من زحام المواطنين لقضاء احتياجاتهم؟.
وهل المواطن «الغلبان» عليه أن يتكبد مشقة الذهاب إلى هناك لتوقيع «ورقة» من وزارة أو جهة حكومية.. بنفس التكلفة والمشقة ومضيعة الوقت التى يتكبدها الموظف؟.
هناك حلقة مفقودة، ربما تحتاج لدراسة جيدة، قبل أن يسارع «السماسرة»، ممن يحترفون «تسقيع الأراضى والشقق»، لشراء المتاح وتجميده حتى ترتفع الأسعار، لتصبح العاصمة الحضارية «عاصمة أسمنتية» يسكنها الأشباح مرحلياً، مثلما حدث لبعض منتجعات الساحل الشمالى.. خاصة مع تذبذب سعر الدولار وانخفاض قيمة الجنيه المصرى، ما جعل الجميع، حتى «ربات البيوت»، يلجأون للاستثمار الآمن بتجميد أموالهم فى العقار أو الذهب أو الدولار.
أعلم جيداً أن فلسفة العاصمة الإدارية الجديدة لا تقتصر على خلق مركز إدارى حضارى، ولا على خلخلة الكتلة السكانية التى ضاقت بها العاصمة، وإنما تستهدف ربط المدن السياحية المتناثرة فى الصحراء (العين السخنة، رأس سدر، الغردقة)، بالعاصمة، وبذلك تكون عملية تعمير الصحراء «جاذبة للاستثمار».. وتكون الفرصة مهيأة لخلق مراكز أخرى عمرانية سياحية وحضارية.
لكن السؤال الذى يفرض نفسه: هل من المفيد امتصاص السيولة بالكامل من العملية الإنتاجية، وتوجيهها للاستثمار العقارى، بدلاً من استثمارها فى الصناعات الصغيرة والمتوسطة، التى تستوعب العمالة وتوفر فرص تصدير ولو محدودة؟.
هل نتصور أن «التمويل العقارى»، لشراء الأراضى والوحدات السكنية، كفيل بضخ الدماء فى شرايين البنوك، رغم كثرة المعروض من وحدات عقارية فى مختلف أنحاء مصر، والذى كشف عن أن المصريين يفضلون أماكن بعينها للاستثمار منها «الساحل الشمالى» رغم ارتفاع سعره؟!.
وهل نسينا ما يسمى بـ«الاقتصاد السرى»، الذى عادة ما يعيد تدوير رأس المال، (بالأحرى غسيل الأموال)، فى تسقيع الأراضى وشراء العقارات؟.
للأسف، معظم المعلومات المتاحة عن العاصمة الجديدة هو حجم الإنجاز، وكل ما تلا ذلك «اجتهادات» يتطوع بها البعض.. فنحن لا نعلم إذا انتقل مجلس النواب بالكامل ومجلس الوزراء بالكامل والوزارات أيضاً.. هل ستظل بعض الجهات التابعة لها مثل (مديريات الصحة والتعليم.. إلخ) فى القاهرة؟.
وربما لو توافرت المعلومات لرأينا الصورة أوضح.. وقبلنا أن تكون العاصمة الجديدة مقراً لقمة «هرم السلطة».. والصفوة والأثرياء.. ونقطة جاذبة للاستثمار وتعمير الصحراء.. حتى لو فقدت أهدافاً أخرى مثل خلخلة الكتلة السكانية فى العاصمة.
نقلا عن الوطن
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع