احترفت الإعلانات -منذ بدايتها- تسليع المرأة وتحويلها إلى دمية، كانت كلمة «موديل» كلمة سحرية تجذب البنات من كل الأعمار والطبقات مثل «النداهة».. حتى أصبح الإعلان الذى لا يستغرق أكثر من ثوانٍ معدودة طريقاً لعالم الشهرة ومدخلاً للتمثيل والتليفزيون.
فى هذا الوقت كان يتم تنميط المرأة كـ«سلعة» حتى فى أغانى الفيديو كليب، التى أصبحت أجساد الفتيات بضاعتها الأساسية، ثم دخل «الموديل الشاب» فى الأغنيات.
ودعونا نعترف بأن صناعة الإعلام «المرئى والمسموع والمكتوب» تعتمد فى الأساس على «الإعلانات» وأن نصيب قناة ما من «كعكة الإعلانات» يرتبط بكثافة المشاهدة.. خاصة مع كثرة الفضائيات العربية والإنتاج الغزيز للمسلسلات تحديداً فى شهر رمضان.
خلال عصر «مبارك» كانت الدراما «سينما وتليفزيون» تقدم المرأة فى صورة مشوهة، فهى إما تؤدى دور امرأة لعوب أو عاهرة وتقدم نفسها كـ«رشوة جنسية»، أو تضعها فى سياق «متطرف» تروّج للنقاب وتعدُّد الزوجات وتخضع للضرب والإهانة.. ومع بداية حكم عصابة «الإخوان» والمد السلفى المتغلغل فى المجتمع حتى الآن بدأت عملية «شرعنة العنف» ضد المرأة.. فظهرت بيننا أصوات تفتى بأن ضرب الزوجة «واجب شرعى»، وأخرى تعتبر أن «ختان الإناث» سُنّة، أما تحرش الرجال بها فحق مكتسب لأنها خرجت «سافرة» فأسقطت رخصتها الشرعية!
صحيح أن المرأة المصرية نالت العديد من المكاسب فى ظل نظام 30 يونيو، وأنها تحظى بعناية فائقة من السيد الرئيس «عبدالفتاح السيسى»، ولكن النساء ما زلن يعانين من أشكال متعددة من العنف فى المنزل وفى الأماكن العامة.. عنف لم تتغير صورته وآلياته، بل ازداد عنفاً رغم الوجود الطاغى والأداء المتميز للوزيرات، ورغم السعى نحو تشريعات جديدة تحمى المرأة والطفل من العنف الأسرى فإن قضية «الوعى» غالباً تسقط من حساباتنا لنجد أنفسنا فى خانة «الضحية» دائماً التى تُحرم حتى الحق فى الصراخ!
نعود للإعلانات التى تم استخدامها قبل عشرات السنوات لتغيير «الوعى الجمعى» بقضايا هامة مثل منع «ختان الإناث» أو الوقاية من «البلهارسيا» أو «تحديد النسل».. لم يكن أى من تلك المواد الإعلانية مخجلاً أو «فقيراً فنياً»، بل على العكس كانت تتضمن عناصر الإبهار والاستعانة بكبار النجوم (المرحوم محمد رضا مثلاً).. وكانت مؤثرة فى تغيير بوصلة الرأى العام لدرجة اختفاء البلهارسيا من المجتمع المصرى، وهو ما تكرر فى حملات مثل مشروع الرئيس «100 مليون صحة» والتنويهات التى نراها الآن حول فيروس كورونا «كوفيد 19 المستجد».
لكن للأسف، طول الفترة الماضية كان الإعلان سلاحاً ذا حدين، فأحياناً يُستخدم فى الابتزاز العاطفى والاتجار بالمرضى والفقراء فى حملات جمع التبرعات، وفى أحيان أخرى يتولى الإعلان غسيل سمعة البعض!
ورغم أزمة منع إعلان لإحدى شركات الملابس القطنية بداية شهر رمضان لم يتصد المجلس الأعلى للإعلام، الذى أوقف إعلان «بنت الجيران» وهو الإعلان الذى وصل الرفض المجتمعى له إلى مجلس الشعب، ولم يتحرك المجلس القومى للمرأة ونحن نرى مئات المرات إعلاناً يحول العنف الأسرى إلى مرحلة همجية متوحشة بزعم أنه «قصة حقيقية»!!.
الإعلان الذى يحفز الناس للتبرع لمستشفى «أهل مصر» لعلاج الحوادث والحروق بالمجان، إعلان مفزع ويصيبك بالهلع، هذا فى الوقت الذى تستهدف الدولة نشر البهجة والطمأنينة بين الناس فى ظل الوباء، ويعتمد على «سيناريو» سخيف لشابة تتذكر فى طفولتها مشاجرة عائلية بين الأب والأم، فإذا بالأب يقذف «طاسة الزيت» على الأم فتصيب الابنة التى تروى بشكل مأساوى آلام الحروق التى أصابتها وبطء الوقت الذى ضاعف من سوء حالتها لتصل إلى المستشفى.. وبعدما يسقط جهازك المناعى من قسوة ما شاهدت ورأيت يأتيك توقيع جمعية «أهل مصر» وأرقام الهاتف للتبرع!.
تبرعوا، ولكن تأملوا آليه تغيير الإعلان لتوجهات الرأى العام، والهبوط بوعى المواطن لأسوأ وأدنى معدلاته، ليستبدل ضرب المرأة بالمسواك أو بالقلم لإهانتها كما كانت تروج السينما والفتاوى إلى حرقها بزيت مغلى.. وبذلك يترسخ فى اللاوعى أن من «الطبيعى والمعتاد» أن يصيب الأب ابنته بحروق بالغة تُعجزها عن الحياة الطبيعية!.
المفترض أن ينشر الإعلان رسالة توعية بمخاطر الحريق مثلاً، لكنه أشعل النيران فى منظومة العلاقات الأسرية، وأساء استخدام «الرمز» فى إحياء عملية التكافل الاجتماعى لأنه قدم رمزاً سلبياً.. وكان يُفترض أن رسالة جمع التبرعات أو الزكاة تكون مبنية على رسالة روحية وأخلاقية وتغذى المنظومة القيمية.
سوف يتصور البعض أن الإعلان يرفض حرق الأب لابنته.. لكنه على العكس من ذلك يتسلل إلى اللاوعى ويكرس العنف الأسرى وينميه.. إنها حرائق «مدفوعة الأجر» تلتهم الوعى الجمعى وتشوه العلاقات الأسرية وتكرس العنف ضد المرأة.. فهل من مغيث؟.