أحياناً تحتاج المجتمعات إلى «ثائر» يحطم التابوهات المقدّسة ويكسر صمت القبور بصرخة، ويحمل رأسه على كفه قرباناً للإصلاح والتغيير.. نحن عادة ما نسمع عن الإصلاح السياسى والاقتصادى، لكن «دعاة التنوير» من الفلاسفة والمفكرين قد لا نعرفهم إلا حين تعلّق رقابهم على مشنقة التيار التكفيرى الذى يهيمن على العقول!
حين ظهر المفكر الشاب «إسلام بحيرى» كان ملهماً للكثيرين، كان داعية للحرية والمحبة والتسامح.. مصراً على أن يكون «العقل سيد الموقف»، وأن نعيد التفكير فى كل ما ألفناه من تراث دينى ولا نقبل إلا ما يتّفق مع النص القرآنى ويقبله المنطق.. لكن هذه «الثورة الفكرية» كانت تهدّد عروش الكهنة الذين قرّروا أن يحكموا البلاد «من الباطن» وأن يجلدوا الغلابة بفتاوى شاذة ومرعبة لضمان السيطرة عليهم، وأن يتحكموا فى خزائن «المعبد» بتأليه «البخارى ومسلم».. وهو ما يغلق أبواب الشهرة والنجومية والثروة عليهم، ثم تطور الأمر إلى تأليه كبيرهم وتكفير كل من يحاول تجديد الخطاب الدينى دونهم.
قطعاً كان «إسلام» يعلم أن طريقه ليس حريرياً، وأنه دخل حقل الألغام بنفسه، وأن حياته قنبلة موقوتة على تقرير من «مجمع البحوث الإسلامية»، التابع للأزهر، ليكون مصيره فى زنزانة أضيق من حلمه بمجتمع عادل راشد يجدّد خلاياه بالعلم والمعرفة.. لكن سجن «إسلام» لم يخرسه كما أرادوا، لم يغتل ضميره ولا تاهت روحه.. بل تفجّرت الأرض الطيبة عن ألف «إسلام»: شباب يحلمون مثله بفصل الدين عن الدولة ونقد التراث الدينى، ويهتفون باسمه، ويقفون انتظاراً على أبواب المحكمة لرؤيته، ويضعون صورته بدلاً من صورهم على السوشيال ميديا.. تحول «إسلام» إلى «حالة»، إلى «أيقونة للتنوير».
لم يكن غريباً أن تهدأ نبرة صوته، أن يتحكم فى انفعالاته، لقد عرف «الخريطة» وامتلك «البوصلة».. أصبح حراً حتى من أسر النجومية.
هل كان لا بد من «فلاش باك» على الماضى؟.. نعم، فلو كنا فى مناخ مختلف (بلا تصفية جسدية ولا إرهاب معنوى)، كان لا بد أن ترى «إسلام» فى الملتقيات الثقافية وعلى المقاهى فى وسط البلد، (كما كان يفعل نجيب محفوظ)، أن تصبح أفكاره «عملة رائجة» تطرد عملتهم الرديئة من السوق.. لكن دعونا نعترف: «الدولة الدينية الموازية» يحصّنها الدستور، وألتراس شعبى من صبيان وطلبة المعاهد والجامعات الأزهرية، تحميها كتائب الحسبة وقانون «ازدراء الأديان!
فى برنامج «حروف الجر» سأله الإعلامى «يوسف الحسينى»: ألا تخشى فى سفرياتك الكثيرة إلى دول أوروبية، أن توجد فيها تكتلات من جماعات العنف؟، ألا تخشى على حياتك؟.. أشار «إسلام» فى إجابته إلى عمليات «الذئاب المنفردة»، وأضاف: عندما كانوا يحذروننى فى بداية الصدام، كنت أرد: الخلاف مع هذه الجماعات خلاف كونى عالمى، «يا عزيزى العالم فى خطر» ما دام هؤلاء موجودين.. والأفكار التى تغذيهم موجودة، من ينفذ على الأرض هو أضعف حلقة فى السلسلة، لكن الأخطر منه من أعطاه هذه الأفكار وكأنه «الإله» رغم أنه بشر!
لا يخشى «إسلام» على حياته مهما واجه من تلك الجماعات فى المطارات، أو فى عواصم العالم، فلم يكن غريباً أن يذكّرنا بأن الإمام «محمد عبده» تعرّض للضرب عدة مرات داخل أروقة الأزهر، وكأنه قدر كل صاحب «رسالة»، ودون ادعاء «بطولات».. إنها «الصورة الخاطئة» التى يروج لها «ملالى السنة» فيتحول رجل مثل «عمر عبدالرحمن» وهو إرهابى دولى رسمى إلى «شهيد»!!
عانى «إسلام» طويلاً من محاولات «التصفية المعنوية» و«اغتيال الشخصية» وتحمل التجريح والإهانة والتكفير، وكانت السوشيال ميديا هى رأس الحربة فى محاولاتهم لاغتيال «إسلام» معنوياً: (بلد كامل ممكن تتهدم بالسوشيال ميديا، لأنها مليئة بحاجات مالهاش علاقة بالحقيقة الثابتة، بل مليئة بالزيف، الناس لا بد أن تتطور وتعرف أن هذا الفيديو مفبرك من مجرد رؤيته، وفكرة أن أى شخص وضع كاميرا أمامه ويقول أى كلام مخيفة.. ويكفروا المسيحيين ويضيعوا حقوق المرأة، أول كسب هذا الصراع هو أن الميديا الحقيقية تكسب.. السوشيال ميديا شىء مدمر لمجتمعاتنا العربية وثوابتها وتجعل ناس رعاع وغوغاء، يظن بعض الرعاع ممن يسمعونهم أنهم ذوو شأن وأن الآخرين شيوخ السلطان).
أشار «إسلام» بذكاء جديد إلى أننا فى «دولة جديدة» وهذه عظمة القانون، ضارباً المثل بقضية الختان التى واجهتها الدولة بشجاعة مؤخراً، فأصبح القانون «يفرض الوعى» على الفئة التى لا تستمع إلى جبهة التنويريين، فيسجن الطبيب والأب والشيخ الذى أفتى بإباحة الختان.
الدولة الجديدة، حسب رؤية «إسلام»، تسعى للتنوير وهذا يحتاج إلى برامج تنويرية فى مواجهة خطبة واحدة يسمعها آلاف ليست لديهم عقلية نقدية تخلق أجيالاً من الإرهابيين، تمارس الإرهاب بموقع على الإنترنت، أو تنضم للكيانات الإرهابية.. نحن فى أزمة، وأتمنى أن نستكمل طريق التنوير دون أى عوائق.. ليس لمواجهة الإرهاب وحماية بلدنا وجيشنا فحسب، بل لأن التطوير نفسه يتوقف على تطوير العقل والعقلية النقدية.
لا يزال «إسلام» ملهماً، مجدداً وإصلاحياً.. من يعرفه عن قرب قد يتعجب كيف يجمع بين كل هذه العذوبة والحس المرهف وبين قدرته على الصمود والشخصية المقاتلة! أتصور أن الإجابة هى فى «الفكر»: فمن خبر القهر يعرف قيمة الحرية، ومن سار أميالاً فى طريق النور لا يحتكره لنفسه، وقد وزع «إسلام» قلبه وعقله على محبيه بالعدل.