بقلم : سحر الجعارة
لى مع المستشارة «تهانى الجبالى»، نائب رئيس المحكمة الدستورية العليا المصرية سابقاً، ذكريات مغزولة بمشاعرنا مثل قطعة «دانتيلا» ناعمة وقوية.. لى معها ضحكات ودموع وليالى ألم وسعادة منقوصة.. وحدى كنت أحتضن لحظات ضعفها.. وكانت- وحدها - تلقنى دروس «النضج السياسى». كنت قبل 20 عاما أجلس لأتابعها فى القاعة، ثم فى آخر بلاد الدنيا أجلس إلى جوارها «على المنصة».. وكانت كل أيام العمل النسوى مشحونة بمصطلحات «العنف ضد المرأة، المساواة، رفع التمييز عن النساء... إلخ أجندة القهر».. لم نتخيل آنذاك أن تغير «توتو»- كما نناديها- تاريخ المرأة المصرية.. لم نتوقع أن تدخل التاريخ كأول قاضية مصرية، فقد كانت بشكل أو بآخر «على يسار السلطة».. كنت أحبو فى عالم الصحافة بينما كانت هى نقابية بارزة وكادرا مهما فى «الحزب الناصرى».. وكانت تخلع ألقابها ومواجعها على باب شقتى الصغيرة لنبدأ معا ترتيبات «العيد»: «السفر إلى مدينتنا طنطا». فى يناير 2003 كتبت مقالًا بعنوان «المرأة الاستثنائية التى أصبحت أول قاضية فى مصر»، كتبت فيه: (كانوا يطلقون عليها لقب المرأة الحديدية وكنت وحدى أراقب دموعًا أرق وأنبل من أن يراها البعض فى عيون الأساتذة، أتابع ذلك البريق الهارب من عينيها يطارد أحلامًا تبددت فى رحلة النضال). (الضعف عند أول قاضية مصرية هو موطن قوة كامنة فى امرأة صادرت أحلامها الخاصة وأجلت أمومتها وعطلت أنوثتها وتنازلت بكامل إرادتها عن الدور الطبيعى لتصبح فيما بعد امرأة استثنائية).
فى مجال العمل العام ربت المستشارة «تهانى» أجيالا، وفى مجال عائلتها كانت أما للجميع وكأنما غلفت قلبها بأوراق الورد ووزعته على الأحباء.. نعم هى نفسها التى وقفت فى وجه المعزول «محمد مرسى» وأجبرته على أن يذهب إلى مقر «المحكمة الدستورية العليا» ليؤدى اليمين الدستورية. «العدل» كان دخول المستشارة «تهانى» التاريخ، والسقوط السياسى المروع كان تغيير عصابة الإخوان لدستور البلاد، ووضع نص دستورى قلص عدد قضاة المحكمة الدستورية من 19 إلى 11 عضواً، خصيصاً لعزل المستشارة «تهانى الجبالى».. إنها المرأة التى وقفت ضد «مرسى» من اللحظة الأولى لتوليه رئاسة مصر، وهاجمته بشدة عقب الإعلان الدستورى فى 2012 معلنة أنه فقد شرعيته كرئيس للجمهورية.
دفعت «الجبالى» منصبها ثمناً لمواقفها، ولا أظنها نادمة، وعادت لصفوف المناضلين.. تتفق أو تختلف مع مواقفها.. لكنك لا تملك إلا أن تحترم تاريخها وصلابتها.. وتقدمها إلى خط المواجهة حين تراجع بعض الرجال. اسمحوا لى أن أهدى مقالى فى «يوم المرأة المصرية» إلى صديقتى وعشرة عمرى.. وفخر نساء مصر المستشارة «تهانى الجبالى»، لأننا نجنى ثمار تعبها ومشوارها الطويل فى أراض ملغمة بفتاوى اضطهاد المرأة وإقصائها عن منصة القضاء. فى عام المرأة 2017، وخلال احتفالنا بذكرى ثورة 30 يونيو، وجه الرئيس «عبدالفتاح السيسى» ضربة موجعة لأنصار الخطاب السلفى الذى يقوض حركة المرأة، فكان قراره بتعيين المستشارة «رشيدة فتح الله»، عضو المجلس الأعلى لهيئة النيابة الإدارية، رئيسًا للهيئة، رغم أنها لم تستمر فى منصبها سوى 70 يومًا فقط لبلوغها سن المعاش. لقد اتخذ «السيسى» قراره دون صدام مع تيارات دينية متطرفة، مستندًا - ربما - لرأى الدكتور «على جمعة»، مفتى مصر السابق، فى تفسيره لحديث الرسول، صلى الله عليه وسلم: (لن يفلح قوم ولّوا أمورهم امرأة)، والذى ظل سيفًا مصلتًا على رقابنا، حتى قال «جمعة» إن الرسول كان يقصد بقوله «الروم» وليس عموم الناس. ورغم ذلك بعض النساء اقتنعن بأنهن «عورة»، وأن أحكام الرجال مُنزّلة من السماء، وأن الاستسلام للقهر مدخل إلى الجنة.. المرأة الآن «وزيرة ومحافظة وقاضية» ولكن تظل شهادتها منقوصة «نصف شهادة».. وبينما يناقش «مجلس النواب» الآن قانونا يجعلها «فاقدة الأهلية».. وجه الرئيس «السيسى»، المستشار «عمر مروان» وزير العدل، بالتنسيق مع رئيسى مجلس القضاء الأعلى ومجلس الدولة، للاستعانة بالمرأة فى هاتين الجهتين، تفعيلا للاستحقاق الدستورى بالمساواة وعدم التمييز تفعيلا كاملا.. وهو ما تم تنفيذه بالفعل تتويجا لمشوار طويل بدأته الدكتورة «عائشة راتب»، وتكريما للمرأة المصرية: «صاحبة الولاية».