منذ بدأت العمل وأصبح لى «مالى الخاص»، بعيداً عن ميراث والدى أو عطايا والدتى، رحمهما الله، قررت أن أزكى وأتصدق (رغم أن المرتب كان هزيلاً فى بدايته).. كانت أمى تضحى نيابة عنا حتى توفيت وآخذ نصيبى من الأضحية كإخوتى، فقررت أن أتشارك مع زوج أختى فى أضحيته.. ثم جاءتنى لحظة «رشد»: هل يحتاج العيد إلى لحوم فقط؟
ألا تحتاج الأسر (التى تجوز عليها الصدقة) إلى ملابس أو خضراوات وفاكهة؟.. أليس بينهم طفل يشتاق لملابس العيد؟!
هكذا قررت أن تكون «العيدية كما أسميتها» مالاً لا شأن لى كيف ينفقه من يتلقاه حتى لو كان «جنيهاً واحداً».. ثم سافرت لتأدية فريضة الحج لأول مرة، كانت معى أختى ومحرمنا ابنها المهندس «بيجاد».. كالعادة كان بيجاد مقيماً مع الرجال وقرروا أن نتشارك فى ذبح ناقة (لا معلومة دقيقة لدىّ حول تفضيلها).
المهم فعلنا ما اتفق عليه ابننا مع الرجال.. ثم فى العام الذى توفيت فيه والدتى تمنيت أن أؤدى العمرة وأهب ثوابها لروحها، فأكرمنى الله بأداء فريضة الحج ثانية.. كنت وحدى مع مجموعة من الصديقات، نويت أن أؤدى حج التمتع (وفيه تُقدم العمرة على الحج ويتحلل الإنسان بينهما، ويسمى الآتى بهذا النسك متمتعاً؛ نظراً لتمتعه بمحظورات الإحرام بين النُّسكَين).. وبالتالى أصبح «الذبح واجباً» علىَّ.
سألت فعلمت أن المملكة العربية السعودية قد تأذت كثيراً من ظاهرة ترك الخراف المذبوحة حتى تتعفن، فمع كثرتها لا يعرف المضحى كيف يوزعها ولا أين يجد الفقراء.. فقررت أن تجمع أموال الأضاحى وتشرف بنفسها على الذبح بمجازر آلية وتتولى توزيع اللحوم جاهزة على الدول الفقيرة، وهو جهد مشكور.
أصبحت العلاقة بينى وبين الأضحية «صكاً» يفيدنى وحدى بأننى أديت المناسك بدقة (فلا أحد يفتشنى ولا يراجع علىّ) وهذه هى العلاقة الصحيحة بين العبد وربه، لا أحد يراقبه ولا يعد عليه عدد مرات سعيه أو طوافه أو يُلزمه بذكر دعاء معين.. لكن الأوصياء على البشر يريدون الوقوف بتعليماتهم المغلظة بين البشر ورب العباد!
كيف تيسر على الناس أمور دنياهم ودينهم؟ وترفع شعار «يسِّروا» فى (سنة مؤكدة غير واجبة بحسب ابن باز) وهى الأضحية؟ ولماذا لا تلزمهم بذبح عجل (بأسعار فلكية)؟! هذا ما يريده البعض: تطفيش الناس من التصدق على الفقراء بأيسر ما يملكون فقط لاستعراض سطوتهم ونفوذهم علينا!.. ولهذا تزعجهم آراء الدكتور «سعد الدين الهلالى»، أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر.
قال الدكتور «سعد الدين الهلالى»، فى برنامج «الحكاية»، إن جميع الفقهاء أجمعوا على أن الأصل فى الأضحية منح اللحوم لأهل البيت والتصدق بالقليل منها، مضيفاً أن فكرة التصدق بالثلث ومنح الثلث لأهل البيت، وتوزيع الأخير على الأقارب والجيران، لم ترد إلا فى حديث أخرجه أبوموسى الأصفهانى.
وطالب سعد الدين الهلالى بنشر ثقافة حرية شراء المواطنين للحوم بالكيلو من الجزارين مباشرة، بدلاً من شراء الصكوك المحددة بـ10 و3 كيلو فى الإعلانات المختلفة. وهكذا سنوا سكاكينهم على الدكتور «الهلالى» نفسه وقرروا أن يضحوا به فى سبيل البقاء على رؤوسهم المتحجرة تحت العمائم، فالمطالبة بـ«الرشد الدينى» ورفع الوصاية عن البشر دونها الرقاب!
وأنا أنشر دعوة الدكتور الهلالى، رغم انقضاء أيام التضحية، لا لشىء إلا لنشر «ثقافة يسروا ولا تعسروا».
وقال الهلالى: «لو الغرض صدقة فمن عدم الرشد الاستدانة لعمل صدقة، عملاً بقول النبى فى البخارى وأخرجه أحمد: (لا صدقة إلا عن ظهر غنى)، خاصة أن ثمن التقسيط أعلى من الكاش، ومن ينتفع بالفرق التاجر وليس الفقير، كما أن التقسيط له مخاطر الملاحقة».
واختتم تصريحه: «علينا نشر ثقافة رشد الإنفاق، الذى اتبعه المصريون عام 1967 وما بعدها، كل طالب كان ينكب على كتابه ويذاكر ولا يحصل على درس خصوصى، كنا نرشد استهلاك الكهرباء والمياه ولا نستخدم إلا اللمبة الجاز، يجب أن نتوقف عن فتاوى الرخاء ومنها الإكثار من الحج والعمرة».
ضحِّ.. أو لا تضحِّ ربنا وحده أعلم بحال العباد وهو من يمنحك الثواب.. افعل ما فى استطاعتك فلن يحاسبك أحد على الأرض إلا ضميرك.. أما سلطة الأوصياء فلن تحول صكوك الأضاحى -بسحر ساحر- إلى صكوك غفران.