بقلم - سحر الجعارة
(منتصبَ القامةِ أمشى مرفوع الهامة أمشى.. فى كفى قصفة زيتونٍ وعلى كتفى نعشى، وأنا أمشى وأنا أمشى.. قلبى قمرٌ أحمر قلبى بستان.. فيه العوسج فيه الريحان.. شفتاى سماءٌ تمطر ناراً حيناً حباً أحيان.. فى كفى قصفة زيتونٍ وعلى كتفى نعشى، وأنا أمشى وأنا أمشى).. تكاد تكون تلك الأغنية الأشهر فى سجل فلسطين، إنها أغنية المخيمات والفلسطينيين فى الشتات، وقوت أطفال الحجارة والعزل تحت القصف، وحكاية العجائز فى الليل الطويل الذى تتخلله صافرات الإنذار وأصوات القنابل.. وهى أيضاً أغنية المقاومة الجبارة.
كلمات الأغنية للشاعر الفلسطينى الكبير «سميح القاسم»، ولصوت فلسطين «مارسيل خليفة».. بل هى صوت ملايين المناضلين فى مختلف بقاع الأرض بعد أن أصبحت «أيقونة» وثورة فى حد ذاتها يتغنى بها الجميع مع عزف هادئ على العود وصرخة هادرة من الجميع، ترفض وتحرض على فعل المقاومة وتعد بالانتصار.
«مارسيل خليفة» وُلد عام 1950م فى بلدة عمشيت فى جبل لبنان، هو مؤلف موسيقى، ومُغنٍ، وعازف عود لبنانى، ويُعتبر مارسيل أحد أهم الفنانين العرب الملتزمين بقضية فلسطين، عُرف مارسيل دائماً بأغانيه التى تأخذ الطابع الوطنى، وبأسلوب دمجه بين الموسيقى العربية والآلات الغربية كالبيانو.
بزغ انتماؤه للحزب الشيوعى فى بداياته (رغم أنه لم يلتزم كثيراً به بشكل دائم)، وإيمانه بالقضية الفلسطينية رافقه فى أغانيه وموسيقاه، رغم أن طابع الموسيقى قد اختلف بشكل واضح حسب مراحل حياته من الحرب الأهلية اللبنانية، والنضال الفلسطينى، إلى مرحلة السلم اللبنانى ومرحلة ما بعد الطائف، واتفاق أوسلو على الجانب الفلسطينى.
طُبعت أول أسطوانة له فى حياته الفنية فى باريس فى أغسطس 1976م، وتشمل أربع قصائد لمحمود درويش وقصيدة جفرا للشاعر الفلسطينى عز الدين المناصرة، ثم غنى لاحقاً فى عام 1984م فى استاد الصفا فى بيروت أمام مائة ألف مستمع قصيدة «بالأخضر كفناه» لعز الدين المناصرة أيضاً التى أصبحت نشيد الثورات العربية منذ 2011م.
(أحن إلى خبز أمى وقهوة أمى.. ولمسة أمى.. وتكبُر فىَّ الطفولة يوماً على صدر يوم.. وأعشق عمرى لأنى إذا مت أخجل من دمع أمى).. خلال أواخر السبعينات والثمانينات لحّن مارسيل أولاً قصائد الشاعر الفلسطينى محمود درويش، مطلقاً ظاهرة غناء القصيدة الوطنية الفلسطينية التى تمتزج فيها صورة المرأة الحبيبة بالأرض والوطن أو الأم والوطن معاً. كانت البدايات مع: «ريتا والبندقية» و«وعود من العاصفة» واستمرت لسنين محققة مزجاً رائعاً بين العود وشعر درويش الرمزى الوطنى العاشق، فكانت «أمى» وكانت «جواز السفر» أفضل شعارات تحملها وترددها الجماهير العربية المنادية بالنضال فى فترة ما بعد النكسة. شكل مارسيل ودرويش ما يشبه الثنائى فى أذهان الناس، رغم أنهما لم يلتقيا إلا فى فترة متأخرة.
(يا أبى إخوتى لا يحبوننى.. لا يريدوننى بينهم يا أبى.. يعتدون علىّ ويرموننى بالحصى والكلام.. يريدوننى أن أموت لكى يمدحونى.. وهم أوصدوا باب بيتك دونى.. وهم طردونى من الحقل.. هم سمموا عنبى يا أبى.. وهم حطموا لعبى يا أبى).. كانت هذه الأغنية سبباً فى تعرُّض مارسيل لدعوى قضائية فى لبنان فى عام 2003، وهى للشاعر «محمود درويش» لكن تمت تبرئته.
وبقى صوت «مارسيل خليفة» أعلى من أصوات المدافع والعويل والنحيب، وحيثما أخفق السياسيون نجح «مارسيل» فى أن يُحيى القضية ويكرّس الوعى بها جيلاً بعد جيل وينشرها بمختلف أرجاء العالم.. وظل صوته زاداً للمتعبين والمحبطين وظل الشعر قوتنا حين يعجز الواقع عن حقن الدماء: (عندما يذهب الشهداء إلى النوم أصحو.. وأحرسهم من هواة الرّثاء.. أقول لهم «تصبحون على وطن» من سحابٍ ومن شجر.. من سراب وماء.. أهنئهم بالسلامة من حادث المستحيل.. ومن قيمة المذبح الفائضة.. وأسرق وقتاً لكى يسرقونى من الوقت «هل كلنا شهداء»)!!