مصر تستحق أن نخاف عليها، على اقتصادها ومواردها وعملتها، أن نخاف على «ملح الأرض» من فقرائها، لأن نصف ما نعيشه الآن من غلاء وأزمة اقتصادية «مفتعل» والنصف الآخر ردة فعل لتحرير سعر الصرف، وبالتالى لا بد أن نتصارح أولاً.
موافقة مجلس النواب على قانون «تأمين وحماية المنشآت والمرافق العامة والحيوية فى الدولة» الذى قدمته الحكومة، والذى يسمح باستمرار مشاركة (القوات المسلحة لجهاز الشرطة فى حماية المنشآت العامة والحيوية، بما فى ذلك الجرائم التى تضر باحتياجات المجتمع الأساسية، ومنها السلع والمنتجات التموينية، وغيرها من المقومات الأساسية للدولة أو مقتضيات الأمن القومى، والتى يصدر بها قرار من السيد رئيس الجمهورية).. يؤكد أن الحكومة بصلاحياتها السابقة لم تتمكن من السيطرة على الأسواق وضبط الأسعار، وأن لدينا فى مصر تجاراً يمكن تسميتهم «أثرياء الأزمة» استباحوا لأنفسهم الاتجار بقوت المصريين ورفع الأسعار عدة أضعاف حتى أصبحت الأسعار مفزعة.
نعم أنا مفزوعة مما يحدث حولى، أنا أرى تاجرات أعرفهن يسافرن نهاية كل شهر لشراء الذهب من دولة عربية ببطاقات الائتمان بالعملة الصعبة، (وبالسعر الرسمى للدولار)، ويستثمرن القرار بفتح البطاقات كل شهر للشراء بداية الشهر التالى!.. ولك أن تتخيل كيف يتضاعف المبلغ بعد دخول الذهب إلى مصر!.
المضاربة على الدولار والذهب والعقار رفعت أسعار الخضر والفاكهة ولا أقول اللحوم والدجاج، كل الأسعار أصبحت فلكية لأنها منفلتة وخارج السيطرة، وكأن نصف الشعب يلتهم نصفه الآخر!.
فالبائع «التاجر» يستبيح لنفسه رفع الأسعار عدة مرات فى اليوم الواحد والمواطن مضطر للشراء.. وهذه الأسعار الوهمية أداة طرد لأى مستثمر عربى أو أجنبى، أضف إليها المقاطعة الجاهلة لمحال مصرية يمتلكها المصريون بزعم «دعم غزة»، وكأن إنقاذ أطفال غزة لا يتأتى إلا بإفلاس المصريين!.
نحن نعيش فى حالة عبثية، فلو كانت الحكومة جادة فى تطبيق سياسة السوق الحرة والالتزام باتفاقية التجارة الحرة (الجات)، لألغت الجمارك على الملابس والسيارات والمأكولات، وتوقفت عن دعم «الصناعة المحلية» بزعم حمايتها من المنافسة، رغم أنها تمتعت بالحماية لأكثر من عشرين عاماً!.
لكننا نتخبط فى سياسات عشوائية (نصفها اشتراكى ونصفها رأسمالى)، ونرفع الجمارك بدلاً من إلغائها أو تخفيضها، أملاً فى زيادة الوارد من العملة الصعبة. وعادة ما يحمّل الرئيس «عبدالفتاح السيسى» مسئولية الغلاء لـ«جشع التجار»، وقد رأينا بالفعل، عقب الإعلان عن تحرير سعر الصرف، أن التجار استبدلوا الأسعار، ووضعوا لافتات بأسعار تصل إلى ثلاثة أضعاف السعر السابق، ولم يمتثل التجار لـ«أسعار استرشادية» التى وضعتها الحكومة لبعض السلع الأساسية، وأصبح المواطن، الذى سقط فجأة فى قاع بئر الفقر، يطالب الحكومة براتب عادل يتناسب مع الزيادة فى الأسعار.. وهى مهمة شبه مستحيلة.. فلا الدولة قادرة على منع استيراد ما يسمى اصطلاحاً بـ«السلع الاستفزازية» ولا هى قادرة على رفع الجمارك عن السلع التى يمكن أن تحدث توازناً فى السوق!.
أتذكر الآن عهد الدكتور «على لطفى»، رئيس الوزراء الأسبق، الذى منع استيراد المكسرات وكان الناس يتندرون على طبق «أم على» الخالى من المكسرات.. وأسأل: كم سلعة يمكن لمصر أن توقف استيرادها وتوفير ما تتكلفه من عملة صعبة حتى يتعافى الجنيه ويتوازن سعر الدولار ويقف عند القيمة الحقيقية للجنيه؟
المراقب للأسواق قد يحسب أن «الشعب بخير» لأن كمية الاستهلاك وحمى الشراء لم تقل. والحقيقة أن الأسر التى تشترى أى شىء وكل شىء، حتى الثلاجة التى تخطى سعرها 50 ألف جنيه، ليست من الطبقة المتوسطة، فهؤلاء صُناع ما يسمى «الاقتصاد السرى» الذين يتاجرون فى المخدرات ويعملون بالدروس الخصوصية.. إلخ، ولا يضعون أموالهم فى البنوك، بل يتم غسلها (تبييضها) بشراء العقارات والذهب والمضاربة على الدولار. الوضع الحالى يخلق «طبقة اجتماعية طفيلية» تحقق ثراء يبدو شرعياً وهو فى الواقع يهدم الاقتصاد المصرى، ويخلق فروقاً اقتصادية رهيبة بين طبقات المجتمع.. أنا لا أدرى كيف تتعامل الأسرة المصرية التى تعلم أولادها فى جامعات أجنبية مع سعر الدولار؟!.
نعود إلى «المواطن الغلبان» الذى أصبحت اللحمة أو حقنة الأنسولين أو كيلو العدس، (ولا أقول شقة أو بطانية أو حُلة جديدة)، أصبح الكساء والطعام والعلاج بالنسبة له مثل شراء «الهيروين».. والوظيفة هى شراء «توك توك».. هذا المواطن هو من يجب أن نضع السياسات من أجله.
أتمنى أن يكون القانون رقم 22 لسنة 2020 بتعديل بعض أحكام القانون رقم 162 لسنة 1958 فى شأن حالة الطوارئ، الذى صدق عليه الرئيس «السيسى» مدخلاً للسيطرة على الأسواق وحماية الاقتصاد المصرى، وأن تكفل التيسيرات التى يقدمها للمواطن بعض المرونة حتى نتجاوز الأزمة الحالية.
a