بقلم - سحر الجعارة
كنت فى أولى خطواتى الصحفية، شابة فى العشرين أرتدى فستاناً أسود -حداداً على والدى رحمه الله- وعلى أكتافى «الحطة الفلسطينية»، داخل قاعة «مسرح الجمهورية» أغطى مؤتمر الأحزاب المصرية لنصرة فلسطين مع بداية توافد المهاجرين السوفيت إلى فلسطين، وقفت أنتظر «أبوعمار» لأصافحه، ربما تصور أنى فلسطينية فاحتضنى وسط ذهول الحرس، وطلبت منه حواراً لجريدة «الرأى العام الكويتية»، وبعد يوم من العمل المضنى والعديد من الشخصيات المصرية والعربية التى كانت بانتظاره (كان بينهم الشاعران الفلسطينيان محمود درويش وسميح القاسم)، جاء استقباله لى بمكتبه الخاص، بمحل إقامته بالقاهرة.. هكذا أصبحت القضية الفلسطينية جزءاً حياً فى ضميرى، الوطن بشخوصه وأبطاله وشهدائه، بكل حجر فى انتفاضاته المتتالية، بكل بشاعة المجازر الفلسطينية، وتغول المستوطنات الإسرائيلية على شجر الزيتون.
أصبحت فلسطين ديوان الشعر المفضل، وصوت «مارسيل خليفة وجوليا بطرس» أغنياتى المفضلة، ويوميات «أطفال الحجارة» أروع كلمات أنشرها، وزيارة مكتبة «منظمة التحرير الفلسطينية» فى تونس أجمل ذكرياتى.. وقبل أن أتوه فى التفاصيل إليكم شهادة «ياسر عرفات» على عطاء مصر لفلسطين:
سألت: سيادة الرئيس، ما رؤية سيادتكم للدور المصرى فى دفع مسيرة السلام؟
الرئيس عرفات ضاحكاً: أصل أنا شهادتى مجروحة.. لأنى أنا مصرى الهوى.. لكن بلا شك وبحياد تام أقول إن مصر لم تتخلَّ فى يوم من الأيام عن دفع أغلى شى (وهو الدم) فى سبيل فلسطين.. (86 ألف شهيد مصرى) دفاعاً عن الأرض الفلسطينية، ودفاعاً عن الأمة العربية بأسرها. (الحوار الذى تناقلته وكالات الأنباء آنذاك نُشر بتاريخ 25/2/1990 بجريدة «الرأى العام»). فتشت -أثناء كتابة هذا المقال- عن أعداد الشهداء المصريين فى حرب فلسطين عام 1948، فوجدتها منقوشة «بالأسماء» فى سجل الخلود على عدة مواقع فلسطينية.
لم تكن مصر تقدم الدم فحسب، فقد قادت «عملية السلام» فى المنطقة بتوقيع اتفاقية «كامب ديفيد»، التى نذكرها دائماً قائلين: (لو جاء ياسر عرفات وجلس على مقعده بفندق سميراميس لتبدل الحال).. وعندما تولى الرئيس «مبارك» سار على نفس نهج «السادات» فى السعى لإتمام عملية السلام والحصول على كافة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطينى، شهدت القضية الفسلطينية تطورات كثيرة وحادة، ونتيجة ذلك تطورت مواقف وأدوار مصر لتحقيق الاستقرار فى هذه المنطقة الملتهبة من حدود مصر الشرقية، وكانت البداية مع سحب السفير المصرى من إسرائيل بعد وقوع مجزرة صبرا وشاتيلا 1982، وفى عام 1989 طرح مبارك خطته للسلام، حيث تضمنت ضرورة حل القضية الفلسطينية طبقاً لقرار مجلس الأمن، ومبدأ الأرض مقابل السلام، مع وقف الاستيطان الإسرائيلى، وفى سبتمبر عام 1993 شارك الرئيس الأسبق مبارك فى توقيع اتفاق أوسلو الخاص بحق الفلسطينيين فى الحكم الذاتى، وفى 2003 أيدت مصر وثيقة «جنيف» بين الإسرائيليين والفلسطينيين باعتبارها نموذج سلام لتهدئة الأوضاع فى المنطقة.
وعلى هامش خطوات السلام، كانت انتفاضة الحجر تُلهب مصر أكثر مما تأتينا صورها من الأرض المحتلة، وأصبح «محمد الدرة» أيقونة فلسطين.. احتضنت مصر الطلبة الفلسطينيين والمهاجرين الذين ارتبطوا معنا بعلاقات مصاهرة وأصبحوا جزءاً من نسيج الوظائف المتاحة.. وبعدما حدث الاقتتال الأهلى بين الفصائل الفلسطينية رعت مصر الحوار الفلسطينى - الفلسطينى، وتمت استضافته فى القاهرة فى جولات متكررة منذ 11 نوفمبر 2002 بهدف مساعدة هذه الفصائل على تحقيق الوفاق الفلسطينى.
كثيرة هى الأحداث السياسية المتسارعة فى فلسطين والتى كانت مصر خلالها حاضرة وفاعلة، بعد ثورة 25 يناير 2011.. حقق الرئيس السابق «عدلى منصور» إنجازاً خاصاً بالقضية الفلسطينية، حيث نجحت مصر فى عهده فى إقناع حركتى «فتح وحماس» بالتوقيع على اتفاقية المصالحة التى طالما سعى إليها وأكد عليها فى لقاءاته وحواراته خلال عشرة أشهر.
وبعد تولى الرئيس «عبدالفتاح السيسى» ظلت القضية الفلسطينية قضية مركزية بالنسبة لمصر وبذلت مصر العديد من الجهود لوقف إطلاق النار لتجنب المزيد من العنف وحقن دماء المدنيين الأبرياء من أبناء الشعب الفلسطينى الذين يدفعون ثمن مواجهات عسكرية لا ذنب لهم فيها، فضلاً عن الجهود الإنسانية التى قدمتها مصر من خلال فتح معبر رفح لاستقبال الجرحى والمصابين الفلسطينيين والمساعدات الغذائية والدوائية للشعب الفلسطينى.
وبعد لقاء مع الرئيس الفلسطينى «محمود عباس»، أكد الرئيس «السيسى» فى مايو 2016 على عدة نقاط: 1- مصر ستواصل مساعيها الدؤوبة من أجل إقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية. 2- التوصل لتسوية عادلة وشاملة من شأنه أن يدعم استقرار المنطقة ويساهم فى الحد من الاضطراب الذى يشهده الشرق الأوسط. 3- ضرورة الحفاظ على الثوابت العربية الخاصة بالقضية الفلسطينية.
ولأن التفاصيل كثيرة فى يوميات التهجير والدم والقصف والاستيطان ومخاطبة الرأى العام العالمى والجهود الدبلوماسية الساعية للسلام التى تبذلها مصر.. أقول ختاماً: إن من تشردوا ومن سقطوا من شهداء وضحايا هم شعب أعزل، المسئول الوحيد عنه بموجب كل الاتفاقيات الدولية هو «سلطة الاحتلال» وبموجب الاتفاقيات الدولية، فما يحدث فى «غزة» هو جرائم حرب بالمعنى الحرفى للكلمة.. لكن العالم الذى يهيمن على المؤسسات الدولية منحاز لإسرائيل.. لن يعامل «نتنياهو» معاملة البشير!