بقلم - سحر الجعارة
لماذا يبدو مصطلح «التنوير» غريباً خارج السوشيال ميديا، وكأنه مصطلح افتراضى وُلد على الشبكة العنكبوتية ولم يدخل حيز الواقع؟.. هل طبيعة الفئات المستهدفة من التنوير حددت وجوده فى هذه المساحة أم لأنها الأحدث والأكثر رواجاً الآن، أم لأننا ركزنا رؤيتنا للتنوير فى «الإصلاح الدينى» ولم نهتم بالجوانب الثقافية والاجتماعية والسياسية؟.
الحقيقة أن أى تطور اجتماعى أو سياسى يرتبط بالضرورة بالدين، كشرط أساسى للانطلاق والتحرر من أغلال التحريم، وحتى لا يظل المفهوم غريباً خذ مثلاً هذه التعريفات الدينية لمصطلحات سياسية: (العلمانية كفر.. الليبرالية يعنى أمك تقلع الحجاب).. هكذا وجد أنصار التنوير أنفسهم فى مواجهة كتائب المكفراتية ودعاوى الحسبة ممن يدعون أنهم متدينون، وأصبحت كل فكرة أو قضية اجتماعية هى «معركة دينية» بالأساس: (الختان، تعدد الزوجات، الدجل والشعوذة، الطب البديل وما يسمى الطب النبوى، النقاب والحجاب، التعليم المختلط، التعليم الدينى.. إلخ).
وإذا سلّمنا بأن التنوير هو ثورة عقلية بالأساس، وتخليص للإنسان من هيمنة ووصاية رجال الدين (أى دين) فهذا يدخلك مباشرة فى صراع محسوم لصالح المؤسسات الدينية صاحبة اليد الطولى فى التشريع، والذين بيدهم أداة ساحقة للتنويريين أنفسهم، وأعنى بها المادة (98 و) من قانون العقوبات، المعروفة اصطلاحاً بقانون ازدراء الأديان.. فكيف يثور العقل فى وجه الخرافات والمعجزات التى تم تكريسها وتعظيمها حتى أصبح رجل الدين نفسه «شبه مقدس»؟.
لقد نجح الفريق الأكثر عدداً، وأعنى «تجار الأديان»، وأتباعه فى شيطنة رموز التنوير فى مختلف العصور، من «ابن رشد» إلى الحاليين، وسوف نعود لهم ثانية، وفى مجتمع كمجتمعنا يغيب فيه «الرمز الثقافى» والزعامات السياسية أصبح «التنوير» لغماً لا أحد يجرؤ على الاقتراب منه إلا رئيس الجمهورية «عبدالفتاح السيسى».
فنجد رأس الدولة يطالب مرة بتجديد الخطاب الدينى من المؤسسة الدينية الرسمية، ثم من المبدعين والمثقفين، ثم يطرح رؤيته مراراً وتكراراً بإعادة فهم المعتقد وعدم فرض معتقدك على الآخر.. ثم يسود صمت الأموات لا أحد يتحرك لتنفيذ رؤية السيد الرئيس أو حتى للسعى فى ذلك، اللهم إلا بعض المثقفين والمفكرين الذين يقتصر وجودهم على «السوشيال ميديا»!. وفى غياب شبه تام للندوات الثقافية والملتقيات الفكرية أصبح التنوير نظرياً أكثر منه عملياً.. وأحياناً يشبه «الانتحار على سبيل الاعتراض».. فأنت تقدم «فكرة فلسفية» قد تنتهى بك إلى التكفير والقتل (د. فرج فودة نموذجاً).. أو تتحدث عن العلم والتجريب فى مواجهة تراث دينى وفكرى يستند إلى مصادر شبه مقدسة، ولم يخضع هذا التراث للمراجعة أو التنقية عبر تاريخه الطويل.. فى مقدمتها صحيح البخارى، وصحيح مسلم، وكتب ابن تيمية وغيرها.
وحماة هذا التراث ليسوا مؤسسات دينية وأهلية فحسب، بل يضاف إليهم ملايين السلفيين والتكفيريين الذين جعلوا من بعض هذا المصادر مرجعيتهم النظرية فى التنظيمات الإرهابية.
هل نحن إذاً نعانى من مناخ طارد للتنوير يكره العلم والمعرفة ويعادى الحرية والتسامح ليدخل غيبوبة من صنع المؤسسات الدينية؟.. أم أن تيار التنوير لم يتمكن من «أدوات التواصل» مع الناس؟.. هل فئة الشباب، وهى القطاع الأعرض المهيأ للتنوير والمستهدف منه، قد دخلت فى «هلاوس جنسية» بفعل «عبدالله رشدى» وأمثاله.. ثم أقنعها هو وغيره بأن التنويرى زنديق ومهرطق.. أم أن الشباب المتمركز على السوشيال ميديا -نقطة وجود التنويريين- هو وحده المؤهل للإيمان بالفكر التنويرى والعمل بها وتحقيقها على أرض الواقع؟.
علاقة الشباب بالثقافة والميديا القديمة والجديدة تبدو ملتبسة وتحتاج إلى دراسة متأنية لخريطتها، فهو نفسه القادر على صناعة «الداعية اليوتيوبر» وهو الذى نجّح أغانى المهرجانات، وهو الجمهور العريض للسينما أيضاً والأكثر مشاهدة للمسلسلات؛ الأنواع السابقة من الميديا تؤكد انصرافه عن الشأن السياسى والثقافة بمعناها الواسع (وربما انخفاض مبيعات الصحف وتزايد معدلات مشاهدة المنصات الرقمية).. أما إن رأيته كيف يتفاعل مع دعاة التنوير على السوشيال ميديا وعرفت متابعته لمَن من الكتاب والمفكرين والسياسيين أيضاً.. لأدركت أن حالة الوعى العام للمجتمع فى نضج وتزايد وأن الشباب متعطش لـ«ثورة العقل».