ممكن أن نتفق بدرجة أو أخرى على ما الذى يريده الله من خلقه، ويمكن أن يتفق المسلمون أكثر على بعض الآيات المفتاحية التى تلخص مراد الله من عباده، ولكن المعضلة هى ما الذى يريده المسلمون من «الإسلام»؟ وهنا الحديث ليس عن «الإسلام» الذى أنزله ربنا، سبحانه وتعالى، على نبيه، صلى الله عليه وسلم، ولكنه حديث عن توظيف المسلمين وربما «متاجرة» بعض المسلمين بالإسلام، وكيف ينعكس كل هذا على خطابنا السياسى والاجتماعى والدينى.
لو أنا باحث قادم من المريخ، وليست لى أى تحيزات مسبقة مع أحد ضد أحد، وقررت أن أرصد ما الذى يريده المتحدثون فى الشأن «الإسلامى» فى أرض مصر لوجدت أن هناك خطابات ستة، وأجندات ستاً، وطرقاً فى التفكير ستاً، تتصارع من أجل تغليب رؤيتها بشأن دور الإسلام على الساحة السياسية المصرية، فدارسو الفقه الإسلامى والإسلاميون والمثقفون العلمانيون يقدمون بدائل مختلفة لفهم الدين ونصوصه، ولكن توازن القوى فى المجتمع هو الذى يدفع لصعود خطاب على حساب آخر، وهذه الخطابات الستة هى:
1 - خطاب إسلامى شعائرى، وهو خطاب يحصر الإسلام فى الجوانب الشخصية، دون أن يكون له دور فى التقنين والفعل السياسى، وهو نموذج الإسلام الذى مركزه الأساسى المساجد للعبادة ويكون جل تأثيره على قضايا العقيدة والأخلاق، ويتبنى هذا الخطاب عادة العلمانيون، من المسلمين وكثير من المسيحيين، الذين كانوا يطالبون بإلغاء المادة الثانية من الدستور المصرى على اعتبار أن الدولة «لا دين لها».
٢- خطاب إسلامى شكلى: وهنا يكون الإسلام مجرد نصوص رمزية يُنص عليها فى الدساتير وبعض القوانين، من أجل إعطاء واجهة شكلية لنظام الحكم، وهنا يريد الحاكم شرعية الإسلام دون قيوده، وقد أعلن عبدالناصر عن احترامه للأزهر، فى حين أنه أطاح ببعض علمائه بل وباستقلاليته، بحجة أنه يغلب عليه الفكر الرجعى، لرفض قياداته تأميم الشركات الوطنية، وكذا نص الرئيس السادات فى المادة الثانية من الدستور المصرى على جعل الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع، مع يقيننا جميعاً أنه ما كان ليطبق الشريعة، وظل الحزب الوطنى يتبنى هذا الاتجاه حتى حله.
٣- خطاب إسلامى ضاغط: وهو الخطاب الذى تتبناه جماعات منظمة أو حركات عفوية من أجل تحقيق مصالح قصيرة المدى مثل الخروج فى مظاهرات من أجل منع تداول رواية أو للاحتجاج على قرار سياسى معين، وقد تلجأ المؤسسة الإسلامية الرسمية مثل الأزهر والجماعات الإسلامية إلى تبنى مثل هذا الخطاب ضاغطة فى اتجاه بذاته، والأزهر الشريف يلعب هذا الدور منفرداً الآن على الساحة عبر اتصالاته بكبار المسئولين عن الدولة، والدولة تستجيب عادة رغبة منها فى ألا تستغل الورقة الدينية من قبل تيارات الإسلاماسى (الإسلام السياسى).
٤- خطاب إسلامى تأسيسى: وهذا الخطاب يجعل من الإسلام إطاراً مرجعياً فوق الصراعات السياسية، وتكون نصوص الإسلام القطعية إطاراً مرجعياً مثل إعلان الاستقلال الأمريكى أو الماجنا كارتا البريطانية التى تشكل قواعد آمرة لا يجوز الاتفاق على مخالفتها، وهذا الخطاب يعنى بالتبعية إنتاج أطر قانونية من قبيل المحكمة الدستورية العليا فى الولايات المتحدة، من أجل الرقابة على «إسلامية القوانين». وطالب بهذا مفكرون «إسلاميون» كثيرون قبل ثورة 25 يناير، وكان هذا جزءاً مما أراده السلفيون، وبدرجة أقل الإخوان، فى دستور 2012 ولكن الفكرة الآن تراجعت بشدة بسبب التجربة المريرة لوصول من يدعون «الحكم بما أنزل الله» إلى سدة الحكم.
٥- خطاب إسلامى حزبى: وهو الخطاب الذى يقدم الطرح الإسلامى باعتباره بديلاً من البدائل المتاحة أمام الناخبين بهدف تكوين الأغلبية فى البرلمانات، ويكون جزءاً من هذا الخطاب هو صياغة برنامج حزبى، له جوانب اقتصادية واجتماعية وثقافية باعتبارها تمثل حلاً أفضل من الحلول التى تطرحها الأحزاب القائمة، ومثل حزب «الحرية والعدالة» وحزب «الوسط» وغيرهما خير أمثلة لهذا التوظيف، ولكن لن يكون سهلاً أن يتقبل العقل المصرى مرة أخرى فكرة «تحزب الإسلام» لما فى ذلك من نتائج مريرة سيعانى منها المجتمع لو حدثت.
٦- خطاب إسلامى انقلابى إرهابى: وهو نوع من الخطاب الذى يهدف إلى نقض الوضع الراهن، باعتباره خارجاً على الإسلام، كما فهمه السلف، والقضاء على أى خطاب آخر باعتبار أن الإسلام ليس بديلاً موضع الاختيار بين الناخبين أو موقفاً فكرياً يتبناه مثقفون، وهو الخطاب الذى تتبناه جماعة الجهاد ومعظم رموز الجماعة الإسلامية الذين يرون أن الدولة والمجتمع دخلا فى فئة «الممتنعين عن تطبيق شرع الله» وبالتالى حق عليهم «جهادهم» بالقتل والتنكير والترهيب.
إذن تبنى خطاب سياسى معين يكون «الإسلام» طرفاً فيه ليس مسألة قيمية نصوصية يقوم بها فقهاء ومثقفون بمعزل عن صراعات المجتمع، وإنما هو موقف استراتيجى يتخذه كل فاعل سياسى وفقاً لحساباته الذاتية، ومن ثم الفيصل فى القضية ليس صحة أو خطأ قراءة معينة، وإنما هو مسألة تغليب قراءة على أخرى وفقاً لتوازن القوى فى المجتمع.
والمعضلة التى تواجهنا أن الدولة والمجتمع لن ينجحا فى مواجهة بقية المشاكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية والسكانية إلا إذا أوجدنا حلاً لهذا الصراع الذى يهدأ أحياناً لكنه ينفجر من حين لآخر، علاقة «الإسلام» ببقية مركبات المجتمع ينبغى أن تكون على قمة أولويات أجهزة صنع القرار فى الدولة.
«اصطفاف» المجتمع من أجل رؤية نهضوية للبلاد لا يأتى بتجاهل الأسئلة الكبرى فى المجتمع، وإنما فى الإجابة عنها بطريقة تسمح بتشكيل تيار وطنى عام، عارف وعالم ومقتنع بهذه الإجابة ويعمل على أساسها.
أما حالة اللاعلم واللامعرفة واللخبطة التى يعيشها المجتمع وتلتبس عليه بشأن علاقة الدين بالدولة والدين بالمجتمع فهى معطلة أكثر منها مفيدة.