بنجامين فرانكلين أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية قال: قبل أن تهدم منزلك القديم استعد جيداً للنتائج وفكر فى البدائل.
ولهذا كان حريصاً مع زملائه على أن يضعوا تصوراً لشكل الدولة الجديدة التى يريدونها، ورغماً عن موته مبكراً، لكنه كتب وقال إنها دولة جديدة بلا ملك ببرلمان منتخب بلا تركّز للسلطة توفر طريقة للتعبير عن المصالح والآراء دون اللجوء للعنف.
وهذا تحديداً ما لم نفعله فى مصر.
كتبت فى فترة مبكرة من ثورة يناير عن شروط نجاح الثورة الشعبية فى مصر، وحذرت من أنه لم يكن متوافراً منها سوى شرط واحد، وهو عادةً أصعبها، لكننا عملنا الأصعب وفشلنا فى الأسهل نسبياً. كى تنجح أى ثورة شعبية فى مجتمع شديد المحافظة، بل وتسيطر الرجعية على بعض أفراده ومؤسساته، فلا بد لها من خمسة شروط:
أولاً، حالة ثورية بما تحمله من فعاليات الاعتصام والإضراب والتظاهر وغيرها، وهذا كان الأصعب الذى تحقق.
لكنها، ثانياً، بحاجة لقيادة ثورية حتى لا تتحول الثورة إلى فوضى. ولم أفهم سر سعادة البعض بأنها ثورة بلا قيادة إلا الرومانسية الثورية التى تملكت البعض ممن يبكون على الثورة الآن، فكان واضحاً أن غياب القيادة جعل أى مجموعة من الأفراد يعطون لأنفسهم الحق فى أن يثوروا على طريقتهم، فيعطلون الطرق أو يحرقون المؤسسات حتى كره قطاع واسع من المصريين الثورة والثوار، واعتبروها عملية تخريبية كبيرة ضد الصالح العام. وكان قمة الخلل فى غياب القيادة الثورية حين ترشح باسم الثورة تسعة مرشحين يتحدثون باسمها فى الانتخابات الرئاسية، فتفتتت الأصوات، وتقدم فى انتخابات الإعادة ممثل عن النظام القديم، الفريق شفيق، والتنظيم العتيق، الدكتور مرسى. وفى وضع كهذا أطلق رموز الثورة رصاصة النهاية على ثورتهم وأيقنوا أنها ثورة ستظل فى الميدان، لأنها لم تكن منظمة بالقدر الذى يسمح لها بأن تصل إلى البرلمان أو الديوان.
وهى ثالثاً بحاجة لتنظيم ثورى يجعل «دريكسيون» القيادة متصلاً بعجلات مركبة الثورة، لكن ما حدث عملياً أن غياب التنظيم الثورى جعل عملية تعبئة الموارد البشرية عشوائية، وإذا اجتمع قادتها كباراً وصغاراً، فلا ينفعون صديقاً ولا يضرون عدواً. وشاعت عبارات من قبيل أن لا أحد يوجه الميدان، وأن الثورة مستمرة، وكأننا نقول عملية جراحية مستمرة فى جسد واهن غير قادر على الاستمرار طويلاً على نفس الوضع.
وتحتاج رابعاً إلى أيديولوجية ثورية، أو على الأقل رؤية واضحة بشأن ما المرفوض، وما المطلوب، وهذه الأيديولوجية ينتج عنها برنامج عمل، الثورة هى فعل سياسى من أجل تغيير سياسة الدولة، لتكون أكثر اتفاقاً مع مصالح السواد الأعظم من الناس. وإذا لم تكن قيادة الثورة لديها برنامج عمل لتحقيق هذا الهدف، فهى تدمر القائم ولا تقدم بديلاً عنه سوى وعود لن تنجح فى تنفيذها، لأنها لا تملك البنية التنظيمية أو الكوادر لتحقيقها.
ثم أخيراً كوادر ثورية تعمل من أجل الرؤية العامة، وليس بهدف خصخصة الثورة، وكأن مصر والمصريين فى خدمة الثورة والثوريين، وليس الثورة فى خدمة مصر. والكوادر مصطلح أعقد كثيراً من الهتيفة والشتِّيمة المستعدين للنزول للميادين للساعات الطوال، أو الذين يستخدمون قدراتهم «الفيسبوكية والتويترية» لتشويه مخالفيهم. والتشويه هنا لم يكن يطال الرجعيين والمحافظين والإصلاحيين فقط ولكنهم كانوا يسبون ويخونون كل ثورى لا يبالغ فى المطالب أو حتى يجلس مع سياسيين آخرين من تيار آخر، ليصفوه بأنه «شرب شاى بالياسمين».
المقصود بالكوادر هم خبراء وساسة قادرون على تولى ملفات الدولة لإصلاحها وإعادة توجيهها للصالح العام.
ولغياب القيادة والتنظيم تحول كل شخص يقبل منصباً عاماً إلى هدف مشاع للشتيمة والتشويه، لينالوا منه مهما كانت كفاءته ورغبته فى خدمة البلد. وأصبح يمارس زعماء الفيس بوك وتويتر حق النقض الملزم على أى شخص يبرز للخدمة العامة؛ فتراجع كثيرون وتقدم آخرون أقل كفاءة وقدرة، طالما رضى عنهم هؤلاء الفوضويون.
أتذكر عنوان مقالى يوم 25 يناير 2011 فى جريدة «الشروق»: «كم يكفى لإحداث ثورة؟» ويبدو أن الإخوة الثورجية افتكرونى سأؤيدهم أياً ما كان قرارهم حتى لو ضد مصلحة البلد، فكتبت فى نفس الجريدة فى 8 أبريل 2011 قائلاً: «آخر عمود فى البيت» أقول لهم فيه: «إوعوا تكونوا فاكرين إن الثورة تعنى هدم كل المؤسسات، بما فيها الجيش. الجيش آخر عمود فى البيت، والتعامل معه يكون بحرص شديد».
وبدا لى آنذاك أنه موقف وطنى، وليس موقفاً سياسياً؛ ولكن الهجوم الذى تعرض له من تبنوا مثل هذا الموقف من الفوضويين، أكد أنهم إما بلا رؤية وطنية، أو بلا رؤية على الإطلاق.
وفى استفتاء مارس 2011 على تعديلات دستور 1971، قلت «نعم» وأوضحت أن «دستور 71» يمنع قيام الأحزاب على أساس دينى أو بمرجعية دينية، يعنى المفروض، بفرض العقلانية والمنطق، أن من يدافع عن بقائه مع تعديلاته هم المدنيون والليبراليون، ولكنهم قالوا: «لا لترقيع الدستور».
وما زلت أرى أنه كان الأولى بنا أن نحافظ على دستور 1971 وعدلناه مثلما فعلت دول كثيرة أخرى غلّبت الاستمرارية المتطورة على التغيير المتعجل. ساعتها، ما كانش يفرق معايا نمشيها «برادعى» أو نمشيها «بشرى»، يعنى الدستور أولاً وفقاً للبرادعى (مع إنى مش عارف ده كان هيحصل إزاى، لأن الدستور فى كل الأحوال سيكون لاحقاً على تحديد من يكتبه أو يعدله)، أو الانتخابات أولاً وفقاً للبشرى. المهم اللى نتفق عليه ننفذه. لكنها لا مشيت «بشرى» ولا مشيت «برادعى»، دى مشيت «طنطاوى». وصدر الإعلان الدستورى العظيم اللى خلانا نمشى بخطوات «نعم» بس بسرعة «لأ» وتساوت «نعم» مع «لا».
مصر كانت تعيش فى فوضى سببها الأصيل أن قيادات الثورة ورموزها لم يدركوا مخاطر تشرذمهم أمام ثورتين جاءتا مع الثورة الأصلية، وهما ثورة التوقعات والثورة المضادة.
الخلاصة إذاً:
أولاً: ما وصلنا اليه الآن ليس بسبب فشل الثورة، ولكنه بسبب نجاح الثورة فى إظهار فشل الثوار فى التنسيق والاتحاد ومواجهة من ناصبوهم العداء.
ثانياً: الثورة ينبغى أن تكون فى خدمة مصر، وليس أن تكون الثورة فى خدمة مصر.
ثالثاً: الحديث عن ثورة جديدة أو انتخابات رئاسية مبكرة يعنى فوضى جديدة، سيدفع ثمنها الفقراء والمحتاجون أكثر من غيرهم وبالتالى، فهى دعاوى نخبوية تذكرنى بتشبيه من يفتح الثلاجة كل خمس دقائق كى يتأكد من أنها تبرد ما فيها من أطعمة، ومع كل مرة نفتح الثلاجة تفقد قدرتها على القيام بوظيفتها. وهكذا مع كل تغيير غير منطقى فى قيادة الدولة.
رابعاً: مصر ليست بحاجة لمعارضة راديكالية على المدى القصير؛ مصر بحاجة لمعارضة إصلاحية تقيم وتنتقد وتطرح البدائل الأفضل لغد أفضل.
خامساً: يا رب نتعلم من أخطائنا.