معتز بالله عبد الفتاح
فى نفس هذا العام من ٥٠٠ سنة، أى فى ١٥١٦، كانت موقعة مرج دابق التى جسدت المحاولة العثمانية لإنشاء الإمبراطورية الكبرى فى المشرق العربى، وفى نفس هذا العام من ١٠٠ سنة كانت اتفاقية سايكس بيكو لتفكيك المنطقة إلى وحدات أقل من الإمبراطورية وهى الدولة المركزية، وفى العام الحالى يوجد اختبار كبير للمنطقة كلها بشأن الحفاظ على هذه الدولة المركزية أو تفتتها إلى وحدات أقل، سواء عرقية أو دينية أو طائفية أو قبلية.
أشار حازم صاغية فى مقال متميز له فى جريدة «الحياة» إلى التحدى الذى يواجه المنطقة، يقول «صاغية»:
(ربّما كان العام الجديد هذا عام الحساب المزدوج الذى يطال التراكيب والتاريخ فى آن معاً، والذى مهّدت له سنوات الانكشاف التى افتتحتها ثورات «الربيع العربيّ»، ثمّ فشلها وما لازمه من صعود «داعش». وهذا واقع يخيف بما يكفى، خصوصاً أنّ العالم والاستراتيجيّات الدوليّة ستضاعف ما ينطوى عليه الواقع وحسابه من خوف وإخافة.
وأغلب الظنّ أنّ تدبير المشرق، بعد انقضاء خمسة قرون عثمانيّة، وقرن فرنسيّ - بريطانيّ تخلّلته الاستقلالات على أنواعها، والأنظمة على أنواعها، سيكون عنوان العناوين.
لقد خلقت الذكريان أنماطاً بدئيّة ومثالات يُسعى إليها من غير نجاح يُذكر. فالإمبراطوريّة لم تنجح حين حاولها الشريف حسين ونجله فيصل، وقد قدما إليها متأخّرين إذ كانت الإمبراطوريّات، على نطاق كونيّ، تتصدّع. بعد ذاك جرت محاولات مصريّة وعراقيّة وسوريّة، بعضها أعاق تطوّرَ بلده وبعضها ترك بلده حطاماً وشعبه مزَقاً من بشر هائمين على وجوههم. وبدورها، لم تنجح الجمهوريّات الراديكاليّة، وكانت النهاية التعيسة للناصريّة بمثابة الانكسار الذى ارتطمت به الملحمة. لكنّ الجمهوريّات والملكيّات الوراثيّة، هى الأخرى، لم تنجح، وإن كان حظّها من الفشل أقلّ. وميتة نورى السعيد البشعة نشرت البشاعة الدمويّة رايةً لعشرات السنين المقبلة على المشرق. أمّا لبنان الطامح إلى شىء من التمايز عن النمطين العسكريّ والسلاليّ، فلاقى حتفه ولم يبق له غير توسّل ذاك الماضى وأسطرته. ولم ينجح كذلك تأجيل الحياة فى انتظار إزالة إسرائيل، أو أقلّه إلحاق هزيمة كاسحة بها. فالحياة من صفاتها أنّها لا تستأذن حين تطرق الأبواب، وأنّها تطرق الأبواب مهما أوصدناها فى وجهها. وفى مناخ قاتم كهذا، جاءت الخمينيّة تهبنا قضيّة فيما القضايا تذوى، وكانت كلفتها، ولا تزال، تفوق أكلاف تلك القضايا جميعاً.
وإذ تغيّرت فى العالم مفاهيم، وجدّت علاقات اقتصاديّة وسياسيّة لم تكن معهودة، مثّلنا نحن المأتم الأكبر وسط هذه الأعراس. وفى مقابل كلّ جديد كنّا نستورده من عالم يزداد رحابة، رحنا نصدّر طغاة دمويّين لا يملكون ما تتطلّبه إدارة القرية. ومن حافظ وبشّار الأسد إلى آية الله الخمينى وصدّام حسين، ومن أسامة بن لادن إلى أبى بكر البغدادى، تلاحقت المساهمات التأسيسيّة لخراب عميم لا يمهّد إلاّ لخراب أعمّ.
وإذا صحّ أنّ تركيّا وإيران قد تفتتحان جولة جديدة، وتُنشب واحدتهما أظافرها فى الأخرى، لم يبق إلاّ استدراج العروض لتدبير المشرق، وهو استدراج شديد الإلحاح يقابله الصدّ والعزوف أكثر ممّا يقابله استعداد العالم ورغبته. وعلى هذا النحو نمضى، علّ شيئاً من تلك القرون العثمانيّة الخمسة، أو من ذاك القرن الأوروبيّ، يقترح علينا مستقبلاً نجرّبه لأبنائنا).
انتهى كلام الرجل، وهو يستحق الكثير من التأمل بشأن ما الذى سيحمله المستقبل لمنطقتنا والعالم.