ما نراه فى الواقع ليس دائماً هو الحقيقة..
حتى ما نراه رأى العين ونلمسه لمس اليد..
فنحن نرى الشمس بأعيننا تدور كل يوم حول الأرض، ومع ذلك فالحقيقة أن العكس هو الصحيح، والأرض هى التى تدور حول الشمس.
ونحن نرى القمر فى السماء أكبر الكواكب حجماً، مع أنه أصغرها حجماً.
ونحن نلمس الحديد، فنشعر بأنه صلب متدامج، مع أنه فى الحقيقة عبارة عن ذرات منثورة فى فراغ مخلخل، وبين الذرة والذرة ما بين نجوم السماء بعداً.. وما يخيل لنا باللمس أنه صلابة وتدامج هو فى الحقيقة قوى الجذب المغناطيسى الكهربائى بين الذرة والذرة.. نحن نلمس القوانين بأصابعنا وليس الحديد.
ونحن ننظر إلى السماء على أنها فوق، والأرض على أنها تحت، مع أنه لا يوجد فوق ولا تحت.. والسماء تحيط بالأرض من كل جوانبها.
والهرم بالنسبة لنا شىء لا يمكن اختراقه، مع أنه بالنسبة للأشعة الكونية شفاف كلوح الزجاج، ترى من خلاله وتنفذ من خلاله.
وصقيع القطبين الذى نظن أنه غاية فى البرودة هو بالنسبة لبرودة أعماق الفضاء جحيم ملتهب.
وفى الحقائق الإنسانية تكذب علينا العين واللسان والأذن أكثر وأكثر.. فالقبلة التى تصورناها فى البداية مشروع حب نكتشف فى النهاية أنها كانت مشروع سرقة.
وجريمة القتل التى أحس الجميع بأنها ذروة الكراهية يكتشف الجميع أنها ذروة الحب.
وما قد يبدو للزوج أنه خيانة من زوجته لفرط إحساسها بجمالها قد يكون الدافع الحقيقى له هو إحساس الزوجة بقبحها وشعورها بالنقص، تحاول الخلاص منه باستدراج إعجاب الرجال، والانتقال من خيانة إلى أخرى.
وما تكتب عنه الجرائد بالإجماع على أنه بطولة قد يعلم البطل نفسه أنه كان انتحاراً.
وفى الحقائق الاجتماعية تتعقد الأمور أكثر، ويغرق الحق فى شبكة من التزييف تشترك فيها كل الإرادات، ويصبح الحكم على الأمور بظاهرها سذاجة لا حد لها.
وفى الحقائق التاريخية يكتب المؤرخون فى كل عصر ومن ورائهم السلطة، وتكتب أقلامهم ما يريد الأقوياء أن يقولوا.
وما أصعب الوصول إلى الحقيقة..
إن الوصول إلى المريخ أسهل من الوصول إلى حقيقة أكيدة عن حياة وردة تتفتح كل يوم عند نافذتك.. بل إن الوصول إلى أبعد نجم فى متاهات الفضاء أسهل من الوصول إلى حقيقة ما يهمس فى قلب امرأة على بعد شبر منك.
بل إن عقولنا تزين علينا حتى عواطفنا نفسها، فنظن أن حب المجد يدفعنا والحقيقة أنه الغرور وحب الذات.. ونظن أن العدالة هى التى تدفعنا إلى القسوة، فى حين أن الذى يدفعنا هو الحسد والحقد.
من الذى يستطيع أن يقول.. لقد أدركت الحقيقة؟
من الذى يجرؤ أن يدعى أنه عرف نفسه؟
ليس من باب التواضع أن نقول.. الله أعلم.
وإنما هى الحقيقة الوحيدة الأكيدة فى الدنيا.. إننا نجهل كل الجهل حتى ما يجرى تحت أسماعنا وأبصارنا.
وبرغم جهلنا يتعصب كل فريق لرأى.. وقد تصور كل واحد أنه امتلك الحق، فراح ينصب المشانق والمحارق للآخرين.
ولو أدركنا جهلنا وقدرنا لانفتح باب الرحمة والحب فى قلوبنا، ولأصبحت الحياة على الأرض جديرة بأن نحياها.
متى نعرف أننا لا نعرف؟
مقال للمرحوم الدكتور مصطفى محمود كتبه عنا منذ 25 سنة.