معتز بالله عبد الفتاح
المحطة الثالثة فى تخلف المسلمين ارتبطت بواقعة محنة خلق القرآن مع غيرها من التفاعلات الأخرى أثر آخر امتد طويلاً حتى يومنا هذا. هذا الأثر نلمحه فى غلبة النص دون اجتهاد فى فهمه وتطبيقه على بعض مذاهبنا الفقهية، والتى جعلت الكثرة الغالبة تخشى الذهاب بعيداً عن الاجتهادات الفقهية التى خلفها الأقدمون، فترتب على ذلك نوع من المبالغة فى تقدير النص والخوف من العقل المفضى إلى الفتنة بما أخذنا بعيداً عن التوازن المنطقى، فتأخرنا فى كثير من ابتكاراتنا بل وفى قبول الكثير من المبتكرات التى جاءت إلينا من الأمم الأخرى.
وبما أن العقل البشرى قد أفضى للتفكير فى هذه القضايا من قبيل القرآن قديم أم مخلوق، فضلاً عن ترجمة عشرات الكتابات من الفلسفة اليونانية القديمة، وما ترتب على ذلك من طرح أسئلة لم يكن من السهل التفكير فيها من قبل العقل المسلم آنذاك، فقد ساوى بعض الفقهاء بين الفلسفة والزندقة وكان الحل ذا شقين: الأول مزيد من التمسك بالأقوال المنسوبة للرسول (ص)، والصحابة العظام والتابعين، ثم من ناحية أخرى ما عرف بغلق باب الاجتهاد.
فعلى مستوى التمسك بالنصوص المنسوبة للرسول (ص) وصحابته، تبين لنا لاحقاً أن الأغلبية الساحقة من هذه الأقوال ليست بأحاديث تنسب للرسول الكريم. فمثلاً يروى أن الحسن البصرى قد حفظ 600 ألف حديث، كما قيل إن الإمام أحمد كان يحفظ ألف ألف (أى مليون) حديث ولكنه وضع فى مسنده أربعين ألفاً فقط، تكرر منها عشرة آلاف حديث، فى حين أننا نعرف الآن أن عدد الأحاديث التى يصح نسبتها للرسول (ص) وفقاً للمحدث المعاصر الشهير ناصر الدين الألبانى لا يزيد على ثمانية آلاف.
وعلى هذا النهج، كان الخلاف الشهير بين أبى حامد الغزالى الموصوف بـ«حجة الإسلام»، وهو بالفعل عالم كبير، وبين واحد من رواد الفلسفة الغربية المسلم ابن رشد، الذى وجدت اسمه فى العديد من الكتابات الغربية الكلاسيكية باعتباره من دعاة العقل والتنوير، وسبباً من أسباب ازدهار الحضارة الإسلامية. وصح تحليل هؤلاء، لأن وجود ابن رشد، حتى إن كان تأثيره ضعيفاً، كان مهماً لتحريك المياه الراكدة. ولكن لما مات جسداً، وأمتناه فكراً، فقد ضاع التوازن بين العقل والنقل. وغلب منطق أبى حامد الغزالى الذى ضمن فى كتبه آلاف الأحاديث التى عرفنا لاحقاً أنها ضعيفة أو لا أصل لها. وساد عند كثيرين أن العقل «هوى» وأن النص مهما ضعف سنده، أفضل مما ينتجه العقل البشرى. وأصبح ابن رشد ومدرسته بمثابة الشياطين والمارقين من الدين، وهو الموقف الذى ساد لدى شرائح المجتمع غير المثقفة حتى يومنا هذا.
ويذكر الشيخ عبدالوهاب خلاف بحق أن غلق باب الاجتهاد على ما أنتجه فقهاء المسلمين فى قرون الإسلام الأولى يعنى ضمناً غلق باب النظرة النقدية فى كتب الأقدمين وترتب على ذلك انقسام المجتهدين إلى أحزاب، ولكلّ حزب مدرسته التشريعية وتلامذتها الذين يبالغون فى تخريج النصوص وكأنها مباراة فى البحث عن القديم، وليس فى النظر للمستقبل، فخلص ذلك إلى تعصب كل مدرسة لمبانيها الخاصة أصولاً وفروعاً. وهكذا انتشر المتطفلون على الفتوى والقضاء، فأدى ذلك إلى تقبّل سد باب الاجتهاد. وقد علق على ذلك الشيخ محمد الغزالى بقوله: إن إغلاق باب الاجتهاد هو اجتهاد، وهذا الاجتهاد بإغلاق باب الاجتهاد انتهى إلى ضرر، والضرر هو أن الأمة توقفت فعلاً عند التفكير القديم الذى كان سائداً فى القرن الرابع تقريباً. وقد ترتب على هذا الغلق لباب الاجتهاد وغلبة النصوص التى كانت كالأشجار دون ثمار أن المسلم المعاصر يجد أنه من الأصلح له أن يستورد قانوناً فرنسياً فى الأمور التجارية عن أن يستند إلى قواعد المذهب الحنبلى أو المالكى أو الشافعى. لأن هؤلاء الأئمة العظام قالوا ما ناسب زمنهم، ولم نقل ما يناسب زماننا إلا بتحليل وتحريم ما نستورده من الغرب والشرق ولم نقم بدورنا فى الاستحداث والإنشاء.