معتز بالله عبد الفتاح
هناك فجوة بين «كيف يرى أنصار السيسى مصر» و«كيف يريدها الثورجية»، أى الذين امتهنوا الثورة مثل المكوجى الذى امتهن المكوة. وهم غير عقلاء الثوار الذين يعلمون سواء بالمنطق، أو بقليل من القراءة، أن الثورة من غير سبب قلة أدب، كما أن الثورة فى غير موضعها وتوقيتها قلة عقل.
أنصار السيسى يريدونها «انضباطاً» والثورجية يرون أنه يريدها «استبداداً».
المقولة الشهيرة التى قالها الإمام محمد عبده: «إنما ينهض بالشرق مستبد عادل» تحولت عند بعض الثورجية إلى «إنما ينهض بمصر أيديولوجى ينتمى لقبيلتى».
وهنا تكون الأيديولوجيا فى غير موضعها. المعضلة فى مصر هى غياب الإخلاص للوطن والكفاءة فى إدارة الملفات، وليست الولاء للأيديولوجيا أو الحزب أو الجماعة.
تساءلت من قبل: لماذا نجح لولا دا سيلفا «اليسارى» فى البرازيل؟ ولماذا نجحت مارجريت ثاتشر «اليمينية» فى إنجلترا؟ ولماذا نجح أردوغان «الإسلامى» فى تركيا؟ ولماذا نجح مهاتير محمد «العلمانى» فى ماليزيا؟ ولماذا نجح تساو بينج «الشيوعى» فى الصين العملاقة؟ ولماذا نجح لى كوان يو «البراجماتى» فى سنغافورة الصغيرة؟ ولماذا نجح بارك تشانج هى «العسكرتارى» فى كوريا الجنوبية؟ ولماذا نجح بول كاجمى «الليبرالى» فى رواندا؟
الأساس المنهجى يقول: «الثابت لا يفسر متغيراً والمتغير لا يفسر ثابتاً»، بعبارة أخرى لا يمكن أن أفسر نجاح كل هذه الأسماء السابقة النسبى بما بينهم من اختلافات، لأن هذه الاختلافات، لو كانت الأيديولوجيا على هذا القدر من الأهمية، كان ينبغى أن تجعل بعضهم ينجح لأنه متمسك بالأيديولوجيات الصحيحة، وبعضهم يفشل لأنه متمسك بالأيديولوجيات الخطأ. لكن ما حدث أن أشخاصاً مختلفين فى سياقات مختلفة متبنين لأيديولوجيات مختلفة نجحوا، وهناك غيرهم متبنون لنفس الأيديولوجيات فشلوا. هل تعرف مطعم «كشرى» رائعاً وآخر فاشلاً؟ هل تعرف مطعم أكل هندى رائعاً وآخر فاشلاً؟ الإجابة غالباً «نعم»، والسر ليس فى كونه هندياً أو «كشرى»، القضية فى التفاصيل. القضية فى أن من يقوم على الإدارة «مخلص وشاطر»، ليس مخلصاً لنوعية الطعام ولكنه مخلص للزبون.
معظم هؤلاء الذين أشرت إليهم فى هذه المقالة لم يكونوا مخلصين لأيديولوجياتهم بل كانوا مخلصين لأوطانهم. تساو بينج الزعيم الصينى الذى جاء إلى السلطة فى السبعينات هو أول من أدخل فكرة «الأقاليم الاقتصادية الحرة» (Free Economic Zones) وهى مناطق اقتصادية منعزلة تماماً عن الفكر الاقتصادى الاشتراكى التقليدى وتدار بطريقة رأسمالية تماماً فى قلب الصين الشيوعية.
لى كوان يو، الزعيم السنغافورى الأهم، ورغم أنه كان ضد تدخل الدولة فى النشاط الاقتصادى تماماً، فإنه قَبِل به وخلّد مقولته الشهيرة: «لا يعنينى إذا كانت القطة سوداء أم بيضاء، المهم أن تمسك بالفأر».
بل إن هؤلاء قَبِلوا أن يغيروا مساراتهم الأيديولوجية حين ثبت لهم خطؤها، بما يتفق مع المقولة التى أوضحتها فى بداية المقالات بأن الأيديولوجيا مثل الدواء نأخذ منه بقدر ما نحتاج وليست ديناً نموت من أجل إثبات صحته. ما يستحق أن نموت من أجله هو الوطن والدين وليس الأيديولوجيا أو الحزب أو التنظيم.
وبالمناسبة فى أكثر من ثلث الحالات يصوّت النواب فى البرلمانات الديمقراطية ضد التوجه العام للحزب الذى ينتمون إليه، ولا يجدون غضاضة فى ذلك. وكلما ارتفع الجمود الحزبى أثناء عمليات التصويت، ارتفعت حدة الخلافات السياسية المفضية إلى استقطابات تضر بالدولة والمجتمع.
لا أخفى القارئ الكريم سراً، أكثر ما يزعجنى فى مصر، ليس الاختلاف الأيديولوجى، ولكن ضعف الكفاءة المذهل فى كل المجالات والقطاعات وتحت كل الأيديولوجيات، لدرجة أفقدتنى الثقة فى الكثيرين. أعطنى شخصاً «مخلص لبلده وشاطر فى شغلته» وأنا عن نفسى معه. المسألة الآن أن كل الأيديولوجيين فى الضعف سواء. القضية ليست من يحكمنى ولا لأى أيديولوجيا أو حزب أو خلفية ينتمى، القضية كيف يحكمنى ووفقاً لأى برنامج عمل.
أتمنى أن تكون قد وصلت الرسالة.