معتز بالله عبد الفتاح
سأبدأ بأول كلمات تشارلز ديكنز فى روايته الأشهر «قصة مدينتين» عن أحوال فرنسا وإنجلترا أثناء الثورة الفرنسية فى القرن الثامن عشر: «إنه كان أحسن الأزمان وكان أسوأ الأزمان.. كان عهد اليقين والإيمان.. وكان عهد الحيرة والشكوك.. كان أوان النور وكان أوان الظلام.. كان ربيع الرجاء وكان زمهرير القنوط.. بين أيدينا كل شىء وليس فى أيدينا أى شىء، وسبيلنا جميعاً إلى سماء عليين، وسبيلنا جميعاً إلى قرار الجحيم.. تلك أيام كأيامنا هذه التى يوصينا الصاخبون من ثقاتها بأن نأخذها على علاتها، وألا نذكرها إلا بصيغة المبالغة فيما اشتملت عليه من طيبات ومن آفات».
عبارات تشارلز ديكنز استخدمها كثير من المؤرخين المعاصرين لوصف أحوال المجتمعات التى تمر بتغيير سياسى واقتصادى وثقافى كبير دون وجود قيادة قادرة على أن «تثبت بعضاً من المتغيرات» أى أن تضع حدوداً على احتمالات الانهيار التام أو شبه التام لمجتمعاتها. وهذا هو ما كان مع مبارك فى آخر أيامه، وهذا ما كان مع صدام فى آخر أيامه، وما كان مع مرسى فى آخر أيامه.
أتذكر أحد أساتذتى فى الخارج حين قال إننا لن نفهم الثورة الفرنسية، وربما أى ثورة فى العالم، إلا إذا قرأنا رواية «قصة مدينتين». وهذا صحيح، بالنسبة لى على الأقل. فى فترات الثورات ينقسم المجتمع إلى فريقين كبيرين، وداخل كل فريق عشرات الفرق التى تتحرك وكأنها ذات قرارات عشوائية واعتباطية وتعمل ضد مصلحتها لمجرد النكاية فى الطرف الآخر.
أحد الفريقين الكبيرين، كما قال ديكنز، يرى الزمن أحسن الأزمان وعهد اليقين والإيمان والنور والرجاء، حيث يكون بين أيدينا كل شىء. وهذا كان حال شباب الثورة فى السنة الأولى بعد ثورة 25 يناير، ثم الإخوان فى السنة الثانية. وفى الحالتين كانت النرجسية، بل والغطرسة، تسيطر على الفريقين.
وكان خلال هذه الفترة هناك فريق آخر يرى الزمن أسوأ الأزمان، الملىء بالحيرة والشكوك والظلام، حيث لا يوجد فى أيدينا أى شىء، اقتباساً من كلام ديكنز. وكان هؤلاء فى معظمهم مناصرى الرئيس مبارك والخائفين من الإخوان. وتمر الأيام ويحتل هؤلاء مقعد الفريق الأول، ويتحول الثوار والإخوان إلى مقعد الفريق الثانى. وسبحان الذى يغير ولا يتغير، الذى يعطى ويمنع، الذى يعز ويذل.
يفترض الآن أن مصر تنتقل من «قانون القوة» إلى «قوة القانون». والمفروض كذلك أن الخطر الأكبر الذى كان يهدد مصر قد زال، وهو انهيار الدولة المصرية تحت ضربات الذين رفعوا شعار «الشعب يريد إسقاط النظام»، وهم يتصرفون بمنطق «الشعب يريد إسقاط الدولة». ومن الواضح أن الشعب قال كلمته: «الشعب يريد إصلاح مؤسسات الدولة».
وهو ما يفسر التفاف أغلب المصريين حول مؤسساتهم الوطنية تجنباً للمصير الأسود الذى كنا من المحتمل أن نسير فيه، والذى سارت فيه دول أخرى كثيرة وانتهت إلى تكلفة هائلة بسبب انهيار مؤسسات الدولة. يكفى أن نعرف أن عدد السوريين المهجَّرين من بيوتهم بسبب انقسام الجيش ووجود ميليشيات متصارعة على السلطة خلال عام 2014 وصل إلى 6.5 مليون، وهذا الرقم فى كولومبيا 5.7 مليون، وفى نيجيريا 3.3، وفى السودان 2.4، وفى العراق 2.1، وفى الصومال 1.1، وفى مصر هذا الرقم يساوى صفراً بفضل الله أولاً وأخيراً، ثم بفضل عدد من عقلاء هذا البلد الذين يقفون أمام أحلام المراهقة التى لا تفرق بين «الإصلاح» و«الإسقاط».
أتصور أن واحدة من مهام الرئيس الجديد وفريق عمله وحكومته أن يقضوا على حالة الفوكا (بتعطيش الفاء) (VUCA) التى عشنا فيها خلال السنوات الثلاث الماضية. وهى ملخص أربع كلمات اخترعها الأجانب للتعبير عن موقف الأزمات الحادة، وأخذها الناس بتوع «إدارة الأزمات» علشان يحذرونا من التصرف بحماقة تحوّل الأزمة إلى كارثة محققة.
هى مواقف صراعية تتصف بالسيولة فى الأحداث (volatility) بسبب السرعة الشديدة فى الفعل ورد الفعل بشكل غير عقلانى على نحو ما هناك فيضان مفاجئ لا نعرف كيف نوقفه. ومع هذه السيولة يوجد عدم تيقن، (uncertainty)، وبالتالى عدم القدرة على التنبؤ بأهداف وسلوك الآخرين فتفترض فيهم سوء الظن، وبالتالى تخرج من داخلك أسوأ ما فيك استجابة منك لما تعتقده أنه أسوأ ما فيهم. لكن يضاف إلى ذلك وجود درجة عالية من التعقد (complexity) بسبب تعدد الفاعلين وتناقض الرسائل الصادرة منهم، فنجد أنفسنا «مش عارفين هم عايزين إيه بالضبط»، لا سيما فى بيئة محكومة بمناخ الشك المتبادل (وقديماً قالوا: أنا أشك إذن أنا دبوس، فتخيل مجتمعاً من الدبابيس والدبابيس المضادة عايشة مع بعضها). وكل ما سبق يكون مغلفاً بالغموض (ambiguity) نتيجة نقص المعلومات، وإن وجدت تكون غير واضحة بالقدر الكافى بما يفتح الطريق نحو التفسير التآمرى.
وتكتمل الفوكا حين يتصرف كل شخص على أساس أن كل ما سبق غير موجود؛ ويبدأ فى تبنى مواقف حادة ويدافع عما يعتبره الحق والصواب والخير والعدل، ويظن أنه لو مات فسيموت شهيداً؛ لأنه يناضل ضد الأشرار الذين يتبنون وجهة نظر متعارضة معه تحت نفس الظروف السابقة.
الفترة المقبلة قد تكون فيها دماء أكثر مما نحب واستنفار من مؤسسات الدولة بما فيها المؤسسة القضائية والشرطية والعسكرية لمواجهة من يريدون مصر أن تعود إلى وضع السنوات الثلاث السابقة.
ما قاله المهندس خيرت الشاطر من وراء القضبان وما سيكون عليه الحال من حشد من قبَل شباب الإخوان يؤكد أن شباب الإخوان ضحايا قيادات الإخوان التى تسعى لتدمير المجتمع من أجل الجماعة، وإهدار المستقبل من أجل صراعات الماضى. ذكرت صحيفة «الوطن» بالأمس أن اللجان الإلكترونية التابعة لتنظيم الإخوان حرضت على اقتحام ميدان التحرير خلال تظاهرات 3 يوليو المقبلة، استجابة للتكليفات التى أصدرها «الشاطر» خلال كلمته أثناء محاكمته، أمس الأول، وقال فيها: «سوف نسقطهم، مش هنتصالح.. ميعادنا فى التحرير»، ودعت حركة «التحالف الثورى»، التابعة للتنظيم، إلى وضع خطة للحشد ومحاصرة ميدان التحرير خلال ما سمتها بثورة 3 يوليو، لإسقاط النظام الحالى.
إذن الدولة مطالبة بأن تفكر بمنطق إزالة اللبس ومحاربة الـ«فوكا»؛ لأن الوضع الراهن لا يمكن استمراره، والوضع السابق على 30 يونيو لا يمكن العودة إليه. نحن بحاجة لوضع جديد يمكن من خلاله تقليل الفجوة بين من يرونه أحسن الأزمان ومن يرونه أسوأ الأزمان. لأن استمرار الحال من المحال.