معتز بالله عبد الفتاح
متابعة هذا الكم الكبير من المتحدثين فى الدين وعن الدين وباسم الدين تصيب الإنسان بقلق شديد، فالأصل أن الدين، أى دين، يقدم للناس قائمة بما ينبغى عليهم فعله (دائرة الواجب أو المفروض) وبما ينبغى عليهم تجنبه (دائرة الحرام) وما بينهما من المستحب والمباح والمكروه. ولكن ماذا لو بلغ الأمر بنا إلى أن الخطابات الدينية فقدت قدرتها على أن تحدد للناس هذه الدوائر بفعل الجدل، بل اللجج، بين أصحاب هذه الخطابات؟ فما تسمع فتوى من شيخ إلا وتسمع من يرفضها فى اليوم التالى. وهى قضية أخطر من أن نقول بشأنها إن اختلاف الأمة رحمة، وبالمناسبة هذا ليس بحديث.
فمن المنطقى أن يختلف «مالك» مع «الشافعى»، لأن ما وصل لهذا من أحاديث لم يصل بالضرورة لذاك، لكن ماذا عنا الآن بعد أن وصلت لنا كل الأحاديث بل هى موجودة فى موسوعات إلكترونية متاحة للجميع؟ هل من المعقول أن يكون أمر ما فى دائرة المباح عند بعض العلماء الثقات هو نفسه فى دائرة الواجب أو الحرام عند البعض الآخر؟ هذا يعنى ببساطة أن بوصلة الاستدلال أصابها عطب.
وهو ما يجعلنى أطرح، بكل أدب، عدداً من الأسئلة المنهجية التى لو لم يكن هناك اتفاق بشأنها، ولو حتى على مستوى القطر الواحد، فسينطبق على ديننا قول أحدهم: والدين من فرط يسره قد احتوى مُسيلمة! وعندى سؤالان:
أولاً: هل هناك حاجة لمراجعة منهج الاستدلال الشرعى؟
إن المعضلة ليست فى القضية محل التحليل والتحريم وإنما فى منهج الاستدلال الذى يجعلنا فى النهاية ننتهى إلى الرأى ونقيضه. وقد قرأت طويلاً فى أسباب اختلاف الفتاوى والتوجهات، وحقيقة فهمت ولكننى لم أقتنع. هو دين واحد من رب واحد لرسول واحد جُمع فى كتاب واحد وهو القرآن ثم عدد معقول من الأحاديث المتواترة (أى التى رواها عدد كبير نسبياً يفوق السبعة عند البعض من الرواة الثقات) والمشهورة (أى التى رواها عدد فوق الواحد أو الاثنين حتى ستة من الرواة الثقات)، فضلاً عن آلاف أحاديث الآحاد التى يقف منها الكثيرون متشككين والتى أعتقد أن بسببها نفقد رشدنا ونسمع فى ديننا ما لا يقبله عاقل.
أنا لست قرآنياً أرفض السنة ولكن أعلن حاجتنا إلى ألا نبالغ فى تقديس أى قول ما دام نسبه أى شخص، مهما كانت درجة قربه من الرسول الكريم، إلى ديننا. أعتقد أنها مسألة فنية علمية تحتاج لإعادة النظر فى منهج الاستدلال برمته وإلا صارت فوضى. وهو ما يستتبع سؤالا آخر: أين رد المتشابه إلى المحكم ورد حديث الآحاد إلى المتواتر ورد كل السنة إلى القرآن؟
إن التعدد الفقهى مقبول كنقيض للاستبداد باسم الدين، ولكن التعدد حين يصل إلى الفوضى واللامعيارية فيخشى المرء على أصل دينه.
ثانياً: ما قدسية القاعدة الفقهية التى تقول: إن العبرة بعموم اللفظ وليس بخصوص السبب؟
فهل أى حكم يأتى فى القرآن أو السنة يؤخذ على إطلاقه دون النظر إلى خصوصية سبب نزوله؟ وبالتالى لو جاء فى القرآن «قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ» فعلينا أن نقاتل هؤلاء دون التفات لأسباب نزول الآية الكريمة؟ إذن لماذا نوجه أسهم النقد إلى سيد قطب وأسامة بن لادن وأيمن الظواهرى؟ فهم طبقوا نفس القاعدة. هل يضع لهم الفقهاء القاعدة وعندما يطبقونها نهيل عليهم النقد؟ والحقيقة أن الفقه حين يختار بين هذين البديلين فقط (عمومية اللفظ وخصوصية السبب) هو يضعنا فى مأزق مفتعل ويضيع علينا بدائل أخرى. وهنا يكون السؤال: لماذا لا تكون العبرة بـ«عمومية السبب»؟ أى لماذا لا نبحث عن السبب (سواء سميناه علة مباشرة أو حكمة بعيدة) من وراء كل حكم شرعى حتى لا يطبق إلا فى حدود الحالات المتشابهة دون الحاجة للتعامل مع ظاهر النص على أنه هو الحاكم دون اعتبار للواقع المعاش؟